الانقلاب على النظام السياسي في إسرائيل يشمل خطة لضمّ الضفة الغربية بـ”الخطوة خطوة”
عربي تريند_ يواصل عدد من الباحثين التحذير من أن الانقلاب على النظامين السياسي والقضائي داخل إسرائيل يهدف، من جملة أهدافه، إلى ضمّ للضفة الغربية المحتلة بالخطوة خطوة، وقتل إمكانية تسوية الصراع بحلّ الدولتين.
ويرى بعض الباحثين الإسرائيليين، وأبرزهم ميخائيل ميليشتاين، مدير قسم الدراسات الفلسطينية في جامعة تل أبيب، أن ذلك سيفضي لواقع بلقانيّ ثنائي القومية في غاية الخطورة من الناحية الإستراتيجية والأمنية على إسرائيل بالمدى المتوسط والبعيد. كما يشير ميليشتاين، في مقالاته ومحاضراته، إلى أن مجرد انشغال إسرائيل بأزمتها الداخلية سيمتص طاقاتها ويصرف انتباهها عن القضية الفلسطينية، ما يعني تبديد وقت ثمين يفضي للواقع المذكور.
وفي خضم تواتر التحذيرات من تداعيات الأزمة الحادّة غير المسبوقة داخل إسرائيل، على خلفية خطة حكومة بنيامين نتنياهو لإضعاف الجهاز القضائي والانقلاب على السلطة الثالثة، يدعو الباحث في الشؤون الإسرائيلية الكاتب أنطوان شلحت إلى التنبّه لما يرد فيها بشأن آخر المواقف الإسرائيلية حيال أراضي 1967، وحيال القضية الفلسطينية عموماً، في ظل وجود حكومة هي الأكثر تطرفّاً قوميّاً ودينيّاً.
ما يحدث في الساحة الفلسطينية هو بمثابة انقلاب يمكن أن يُعدّ موازياً للانقلاب القضائي، يركز على تغيير المقاربة والطريقة التي تسيطر فيها دولة إسرائيل على أراضي الضفة الغربية.
يشير شلحت إلى أحدث وثيقة صادرة عن معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب المذكور تحت عنوان “إنذار عاجل”. لافتاً إلى أن هذه الوثيقة، التي تتابع “المخاطر” التي تتهدّد الأمن القومي الإسرائيليّ عموماً، جاءت تحت عنوان “السياق الفلسطيني”، وأن ما يحدث في الساحة الفلسطينية هو بمثابة انقلاب يمكن أن يُعدّ موازياً للانقلاب القضائي، يركز على تغيير المقاربة والطريقة التي تسيطر فيها دولة إسرائيل على أراضي الضفة الغربية.
السيطرة على الضفة الغربية
وهدف هذا الانقلاب، بموجب الوثيقة المذكورة، سيطرة إسرائيل على الضفة الغربية المحتلة، وإحباط أي إمكان لتسوية مستقبلية بين إسرائيل والكيان الفلسطيني.
وجرى التعبير عن هذه السياسة عن طريق انتهاج إستراتيجية جديدة تسعى للقضاء على التطلعات الوطنية الفلسطينية، وعلى الخيار السياسي للتسوية، وتحضير الأوضاع لضم المنطقة “ج” كلّها إلى إسرائيل، ولاحقاً، إنشاء وضع “دولة واحدة مع تفوّق يهودي”، على حدّ ما يرد في الوثيقة ذاتها.
ووفقاً للوثيقة، التي جاءت بعد تصريحات لرئيس حكومة الاحتلال عن المضيّ في محاولة اقتلاع طموح الفلسطينيين بالاستقلال، تتجلّى هذه الإستراتيجية الإسرائيلية، الموصوفة بأنها جديدة، في ما يلي: أولاً، استغلال التصعيد في ما تنعتْه بأنه “إرهاب فلسطينيّ” من أجل القيام “بردّ صهيوني شامل”: إقامة مستوطنات، وتوسيع المستوطنات الواقعة وراء العائق الأمني في قلب الأراضي الفلسطينية، وإقامة بؤر غير قانونية، والتساهل مع أعمال عنف المستوطنين وممارساتهم الانتقامية. وثانياً، نقل الصلاحيات المدنية في الضفة الغربية إلى الوزير بتسلئيل سموتريتش، رئيس حزب الصهيونية الدينية اليميني المتطرّف، وإضعاف صلاحيات القائد العسكري (المسؤول الفعلي على الأرض)، تغيير القواعد والإجراءات المتعلقة بتصاريح البناء في المستوطنات، ونقل وحدة المراقبة إلى سيطرة الوزير سموتريتش، الأمر الذي يسمح بتوسيع الرقابة على البناء الفلسطيني غير القانوني، وغضّ النظر عن البناء الإسرائيلي غير القانوني. والنتيجة تآكل الحاجات والاعتبارات الأمنية وتقدُّم الاعتبارات الاستيطانية.
ويوضح الكاتب أنطوان شلحت، في تقديمه لنشرة مركز “مدار” حول ما تشهده إسرائيل في 2023، أنه يتعيّن علينا أن نضيف إلى ما تقدّم، وهو ما يؤكده الكثير من المحللين الإسرائيليين أيضاً، أنه في واقع إسرائيل الراهن ليس هناك من يعارض هذا الموقف العام للحكومة من الاستيطان والاحتلال والمسألة الفلسطينية. فمثلاً أطراف الحكومة الإسرائيلية السابقة (حكومة بينت- لبيد)، التي كان الوصف الأكثر شيوعاً لها في إسرائيل هو بأنها “حكومة التغيير”، ظلّت، في ما يتعلّق بأراضي 1967 والقضية الفلسطينية، تطرح مبدأ “إدارة الصراع” أو “تقليصه”، والذي هو في الحقيقة تأييد استمرار عدم وجود سياسة تسوية سلمية، ما سيؤدي ربما إلى النتيجة ذاتها.
في الأصولية الدينية اليهودية المهيمنة
ويرجّح أنه من بين أبرز التداعيات الأخرى التي ترتّبت على الحكومة الإسرائيلية الحالية، بحسب ما يشير باحثون مختصون، أنها تشكلت بناء على نتائج الانتخابات العامة الأخيرة، وهي نتائج دفعت نحو السطح تيارات عميقة في المجتمعين الديني والحريدي بالإمكان تصنيفها كتيارات أصولية.
وتشير البروفسور رونيت عير- شاي، وهي رئيسة “برنامج دراسات النوع الاجتماعي” في جامعة بار إيلان، وباحثة في “معهد هرتمان للفكر اليهودي التعدّدي”، في مقال جديد بعنوان “الأصولية الدينية وتقاليد الموروث اليهودي”، نُشر في المجلة الإلكترونية “العين السابعة” الصادرة عن “المعهد الإسرائيلي للديمقراطية”، إلى أن أدبيات البحث الخاصة بالأصولية الدينية عموماً تحدثت بشكل عام عن خصائص متنوعة لهذه الأصولية.
وطبقاً لمقالها، فإنه غالباً ما شمل ذلك الخصائص التالية: التشديد على التفسير الحَرْفيّ للنص الديني، الطاعة غير المشروطة لأمر الله، رفض التعددية الدينية، التصوّر التبسيطي وغير النقدي لمفهوم الحقيقة الدينية، تصوّر نظام القانون أو الإيمان على أنه أبدي لا يتغيّر، تطلّع إلى العودة للتدين الأصلي الذي لا يتأثر بالتحديث، والرغبة في توسيع نفاذ الحقيقة الدينية على المجتمع بأسره.
وفي قراءة هذه الباحثة فإن التيارات اليهودية الأصولية التي تفرض هيمنتها على الحكومة الإسرائيلية الحالية تتسم أكثر شيء بما يلي:
أولاً، الاستلاب الكامل للحاخامات وفتاواهم في ما يتعلّق بأحكام الشريعة اليهودية، حتى لو كانت تتعارض مع العقل أو المنطق، علماً بأنه كان لدى مفسري الشريعة اليهودية مَن أكدَ (وكان أبرزهم الرامبام) أن المعيار الوحيد الذي يجب أن تُفَسَّر على أساسه كلمات الحاخامات هو المعيار العقلاني فقط، وأنه في كل مرّة لا يتطابق المكتوب مع المعايير العقلانية، يجب تفسيره بعيداً عن التبسيط، بل على أنه مثل أو أحجية، ولكن ليس كأمر يتعارض مع العقل بأي شكل من الأشكال.
وثيقة: إسرائيل تسعى للقضاء على التطلعات الوطنية الفلسطينية، وعلى الخيار السياسي للتسوية، وتحضير الأوضاع لضم المنطقة “ج” كلّها إلى إسرائيل، وإنشاء وضع “دولة واحدة مع تفوّق يهودي”.
ثانياً، هناك، برأي عير- شاي، مدماك آخر أكثر خطورة في الطابق؛ المدماك الأصولي الذي يتم بناؤه اليوم، وتقصد السؤال حول ما إذا كان من اللائق أن تشكل المفاهيم الأخلاقية معياراً تفسيرياً في فهم الشريعة، أم أنه ليس بمقدورنا كبشر فهم “الأخلاق الإلهية”، وبالتالي يجب علينا أن نطيع (على نحو أعمى) حتى عندما تتعارض تعاليم معينة مع أي فهم أخلاقي مُتعارف عليه. وتوضّح أنه كتب الكثير حول هذه المسألة، ولكنها ارتأت أن تكتفي بالقول إن الموقف السائد بين الكثيرين في العالم الديني يجزم بأنه عندما نواجه تعاليم أو تفسيرات لا تتماشى مع المفاهيم الأخلاقية المتعارف عليها، فلا ينبغي للمرء أن يطرح أي تساؤلات حول تعاليم التوراة المكتوبة أو الشفوية. ويؤمن هذا الموقف الديني الأصوليّ في الواقع بأن شريعة الله تؤسس الأخلاق، وبالتالي لا توجد “أخلاق طبيعية”. بعبارة أخرى، لا تتمتع الأخلاق بمكانة مستقلة (بمعنى “أوتونوميا”) ويمكن لله أن يأمر حتى بالأشياء التي تبدو لنا غير أخلاقية، لأنها إذا كانت فرائض إلهية فهي بالتأكيد “خيّرة”. وتجزم بأن إسقاطات هذا الموقف على دافعية الحاخامات لتفسير يتوافق مع وجهة نظر أخلاقية بسيطة، هي إسقاطات مدمرة بالتأكيد. وتقدّم نموذجاً من خلال الحاخام شلومو أفنير (وهو من حاخامات التيارات الدينيّة المتشددة، ومدير إحدى أهم الكليات العسكرية الدينية) الذي كتب أنه “من المهم أن ندرك أن الأخلاق لا تبدأ بما يشعر به الإنسان ويعرفه ويفهمه. إن الأخلاق لا تأتي من الإنسان، بل إنها تأتي من الله”.
وبالفعل، في العقود الأخيرة، على ما تضيف عير- شاي، هناك خط متطرّف آخذ بالتطور في المجتمع الصهيوني- التوراتي/ الحريدي- القومي وهو ينكر أي أخلاقيات لا تستند إلى التوراة. وتحمل هذه المسائل أهمية كبيرة في فهم الموقف النفسي لدى المفسّر والمشرّع، عندما يتعلق الأمر بالحكم في القضايا التي تعكس معضلة أخلاقية بين ما يُنظر إليه على أنه موقف الشريعة وبين الأخلاق السائدة اليوم. وتتفاقم خطورة الأمر برأيها عندما تُترجم إلى رسالة تربوية تُنقل إلى طلاب الحاخامات من خلال بلاغة الأجوبة الشرعية.
معايير العقل والأخلاق
أمّا الاستنتاج الذي تخلص إليه هذه الباحثة ففحواه أن الموقف الديني النقدي، الذي يخوض في البحث بأقوال الحاخامات ويفسرها في ضوء معايير العقل والأخلاق، لديه جذور عميقة في الموروث الديني اليهودي التوراتي والفكري. كما أن المفاهيم الأصولية التي ترى أن أي محاولة لتفسير الشريعة اليهودية وفقاً لمبادئ عقلانية أو أخلاقية تتسبّب بإخضاع كلام الله لإرادة الإنسان هي التي تتطلب تبريراً، لأنها لا تعبّر بأي شكل من الأشكال عن مفهوم “اليهودية الأصيلة” الجذرية بل تشكّل انحرافاً عن التيارات المركزية والمهمة في الموروث اليهودي على مرّ أجياله، وتجلياتها، اليوم، هي عملياً ليست سوى تطورات حديثة مناهضة للموروث.