منوعات

جلال برجس يكتب ….التفاتة إلى الوراء

#جلال برجس

شهدتُ في زمن الطفولة كيف اتسعت رقعة القرية، وكيف بقيت مكانًا وادعًا وبيوتها تربض على تلك التلة التي تطل على مادبا؛ مدينة منذ زمن ما قبل المدرسة أجلس قرب البيت على مرتفع، أرخي رأسي بين يدي، وأتأملها بعطش أسبابه ما تزال غامضة. كنت أحلم بالمدينة من دون أن أدري أي الأشياء يمكن أن تسلبها مني المدن، وأي الأشياء يمكن أن توفرها لي القرية. كانت حكايات جدي وجدتي تدفع بي باستمرار إلى ذلك الشكل اليومي من التحديق بمادبا تارة، وأخرى بالطريق التي تربطها بعمان. إلى أن رأيت جدي في أول أيام الشتاء يجهز فرسه لينطلق إليها. كنت أقف قربه أنظر إليه وفي عينيَّ تلوح ملامح غبطتي له على مشواره اليومي.قبل أن يمتطي فرسه انتبه لي؛ فبقيت قدمه اليمني في الركاب، واليسرى على الأرض تسند جسده وهو يتفرس وجهي مبتسمًا، ثم نطقها: هيا تعال معي. لا أدري كيف قفزت وراءه بكل تلك الخفة ثم مضى. ما أن تسلقت الفرس السفح الذي تنطلق من وسطه طريق تتلوى الى مادبا، ويداي تلتفان حول جسده، حتى رحت أنكش عش الأسئلة: من هنا تبدأ المدينة؟ ما هذا؟ من هذا؟أخذت حنينا تتضاءل وأنا أنظر إليها كل حين، كأني أخشى عليها من التيه فيما وراء صخب المسافات. ومادبا تكبر وتتسع، بينما الفرس تنقر خطواتها على الطريق الاسفلتي، نقرات ما يزال صداها في أذني كضربات على طبل في حفل الغجر، كأولئك الذين حين مررنا بحيّهم أخذ جدي يحدثني عنهم، خاصة بعد أن رآني أنظر بدهشة إلى رجل يطرق قضيبًا معدنيًا استله للتو من النار. لم أفهم حينها شيئًا مما قاله سوى أنهم طيبون، ومظلومون. بقيت أنظر إلى الوراء، أتأمل شعور الرجال الطويلة، وملابس الناس الملونة، وتلك الخيام التي يخرج منها أطفال نصف عراة، وفتيات جميلات. بعد دورة لدولاب الزمن عرفت أنهم أولئك الذين مكانهم ريح، وليلهم الغناء. ينظرون إلى الدنيا من نافذة ساخرة جدًا.في السوق تلاشت الأسئلة؛ وحل صمت اقتادني إلى تأمل ما أرى، تأملٌ مشوب بدهشة مفرطة أصلها صدمة الأحداث والأشياء الأولى: دكاكين عطارة، دكاكين للخبز، للأقمشة، للحلويات. دكاكين لكل شيء. وحركة للناس، والسيارات، والخيول لم أجدها في القرية. في القرية فراغات جغرافية شاسعة لا تعرف الصخب. وفي المدينة ما يمكن أن يخرجك عن سياق الهدوء الممل الذي ارتبط ليله بالزيغ الجواني. المدينة عالم جديد أصابني بلوثة بقيت ترافقني وجدي يسلم على هذا وذاك. كان يضحك تارة، ويبتسم أخرى. يطيل الحديث مع أحدهم، ويختصره مع آخر. وجدت صورة أخرى لجدي غير التي عهدتها في القرية. صورة لواحد عينه على البعيد الذي تجاوز لأجله زمن الحل والترحال الصحراوي إلى زمن الاستقرار. صورة لرجل روحه تعلن عن رشاقتها، ومحبتها للحياة. كان نهارًا استثنائيًا بقيت أضم أثره المقدس إليَّ، وآخر شارع يمر من وسط حي الغجر يقتادنا الى خارج المدينة عائدين إلى القرية. يداي تتحلقان حول خصر جدي، والفرس محملة بالخضار، والفاكهة، والأرز، واللحم، والحلوى، والتبغ. في المدى الغربي تكاثرت غيوم داكنة لمع من تكاثفها برق أعقبه صعود هادر لصوت الرعد؛ إذ ما هي إلا دقائق حتى انهمر مطر شديد الغزارة. رأيت التراب قد استحال إلى إسفنج يحتضن الماء بشبق كبير. نظر جدي إلى السماء مبتهجًا، ثم خلع فروته وزملني بها؛ فرحت أطل من فتحتها وفي رأسي إحساس ينبثق للمرة الأولى حيال المطر وهو يقصف الأشياء بلهفة عاشق جريء. كان جدي والفرس تسير بحذر، يطل إلى الأعلى مغمضًا عيناه، والماء يتساقط على رأسه، ويسح على وجهه، ثم يتعلق بنهاية ذقنه، كأنها دموع أبت أن تسقط على الأرض. فجأة والرعد يحوم في السماء صرخ بصوته الجهوري: عزك يا عزيز. عزك يا عزيز. عزك يا عزيز. ومن دون أن أعي رحت أردد وراءه بصوتي الطفولي، بعد أن أخرجت رأسي من الفروة:– عزك يا عزيز. عزك يا عزيز. عزك يا عزيز.ترجل عن الفرس، وحملني بعد أن خلع كوفيته، وأمسك بيدي ورحنا نرقص. وقفت الفرس على قدميها، وقد دبَّ في شرايينها طرب عنفواني. في دواخلي كنت أحس بدفق هائل وسحري لموسيقى جديدة. تضاءلت صورة المدينة شيئًا فشيئًا، وأنا التفت ما بين الحين والآخر إلى الوراء. في تلك اللحظات التي لا يسمع فيها إلا صوت الرعد وصوت تساقط المطر.لماذا وإنا أوغل الآن في تخوم ذاكرتي أراني كما لو أنني حياديًا عن تلك الصورة:(الفرس تتسلق تلك الربوة التي هي الآن حنينا، وهي تصارع الانزلاقات، وأنا التصق بجدي عائدين بروح المدينة إلى قريتنا التي كان أغلب قاطنوها في الشتاء يعيشون تحت الأرض في الكهوف، ويصعدون ربيعًا الى بيوت الشعر). نمت في تلك الليلة وأنا أحاول أن أضع كل صورة رأيتها في ذاك اليوم في مكانها، لأصحو صباحًا وأقف عند تلك الربوة، لأطل على المدينة واضعًا كفيّ فوق حاجبيّ، كما يفعل جدي، وأحدق في المدينة، وفي درب الرعاة

موقع اثير

اظهر المزيد

اترك تعليقك

زر الذهاب إلى الأعلى