المغرب العربي

الانتحار في تونس… تفشي ظاهرة التخلص من الحياة حرقاً بالقيروان

حاول العشريني التونسي عماد بن خود قطع شرايين يده اليسرى في مركز للفنون الدرامية بالقيروان في 16 أغسطس/ آب 2017، احتجاجاً على مماطلة السلطات الجهوية في المحافظة الواقعة وسط تونس وتجاهلها النظر في ملفه الذي قدمه في منتصف يونيو/ حزيران الماضي من أجل تنظيم عروض فنية مدعومة من الدولة، الأمر الذي دفعه إلى محاولة الانتحار بعد تنفيذه ورفاقه اعتصامات عدة لم يتجاوب معها المسؤولون، حسبما روى لـ”العربي الجديد”.

يعد الشاب بن خود واحداً من بين عشر حالات حاولت الانتحار في القيروانولكن تم إنقاذها في اللحظات الأخيرة، بينما لم تكن 24 حالة أسعد حظاً، إذ أنهت حياتها، وتنقسم حالات ومحاولات الانتحار تلك إلى 20 حالة ومحاولة حرقاً و5 شنقاً، فيما انتحرت 9 حالات عبر القفز من أماكن عالية، أو بواسطة استعمال مواد كيمائية، لتنضم إلى 370 حالة انتحار ومحاولة انتحار في تونس، خلال الفترة من يناير/ كانون الثاني الى حدود شهر مايو/ أيار 2017، وفقاً لأحدث تقرير صادر عن المرصد التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية غير الحكومي.

وتصدّرت القيروان قائمة محافظات تونس في عدد حالات ومحاولات الانتحار بـ 120 حالة وقعت في عام 2016، ما يمثل 30% من إجمالي الحالات والمحاولات التي بلغت 908 حالات، بينما سجلت المحافظة 89 حالة انتحار في عام 2015، من إجمالي 549 حالة في تونس بنسبة 16,21%، وفقاً لإحصاءات العامين الماضيين، كما يقول رئيس فرع المرصد التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بالقيروان رضوان الفطناسي لـ”العربي الجديد”، مشيراً إلى أن منطقة العلا الواقعة غرب القيروان الأعلى في حالات الانتحار، تليها مناطق “معتمديات بوحجلة والوسلاتية وحفوز”.

وتأتي تونس في المرتبة التاسعة عربياً في حالات الانتحار بمعدل 2.4 حالة انتحار لكل 100 ألف شخص، بحسب آخر تقرير حول ظاهرة الانتحار أعدته منظمة الصحة العالمية في عام 2016.

الانتحار حرقاً الأكثر انتشاراً

تكشف تقارير المرصد التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية عن تصدّر حالات الانتحار حرقاً إجمالي الحالات والمحاولات التي جرت خلال النصف الأول من العام الجاري وخلال العام الماضي، إذ شهدت تونس 79 حالة ومحاولة انتحار حرقاً و69 شنقاً و20 حالة عن طريق الأدوية والمواد السامة و10 عبر القفز من علو، وتنوعت بقية الحالات بين استعمال سلاح أبيض والصعق بالكهرباء وقطع شرايين اليد.

وسجل المرصد 75 حالة انتحار حرقاً و71 شنقاً و26 عبر تناول مبيدات و24 حالة عبر القفز من علو و17 بتناول الأدوية و7 بسلاح أبيض و6 بواسطة الكهرباء، وتنوعت بقية الحالات بين الإلقاء في بئر، أو تحت القطار خلال عام 2016 فيما سجلت القيروان 15 حالة انتحار حرقاً و9 حالات شنقاً، غير أن تقرير عام 2015 اختلف، إذ سجل المرصد 105 حالات ومحاولة انتحار حرقاً و238 شنقاً وتنوّعت أسباب بقية الحالات.

ويصعب إنقاذ من يحاول الانتحار حرقاً، إلا في حال جرت محاولته بالقرب من مركز إسعاف مدني، وفقاً لتأكيد الملازم أول في إدارة الدفاع المدني بالعاصمة تونس والناطق الرسمي باسم اتحاد نقابات الحماية المدنية معز الدبابي، والذي قال لـ”العربي الجديد”: “عامل الوقت مهم جداً في حالات الانتحار حرقاً، وعقب وصولنا إلى مكان الحادث نستعمل مباشرة غطاء معقماً يوضع الشخص داخله”، موضحاً أن حروق الدرجة الثالثة هي الأخطر، إذ غالباً ما يموت أصحابها وهم في العناية المركزة.

الذكور في صدارة المنتحرين

سجّل المرصد التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية 335 حالة انتحار ومحاولة انتحار للذكور، مقابل 35 للإناث خلال النصف الأول من العام الجاري، من بينها 31 حالة ومحاولة انتحار للذكور و3 للإناث في القيروان، وخلال العام الماضي تم تسجيل 894 حالة ومحاولة انتحار للذكور مقابل 14 للإناث، من بينهم 101 حالة ومحاولة انتحار للذكور و19 للإناث، في القيروان، وهو ما يعني أنه في مقابل كل 3 حالات انتحار للذكور تقع حالة تقوم بها أنثى، الأمر الذي يفسره الباحث في العلوم الاجتماعية، وعضو المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات فرع تونس، عادل العياري، بالتنشئة الاجتماعية التي تختلف بين الجنسين، إذ تتم تربية المرأة على الصبر، في حين أن سلوك الذكر يتميز بالاندفاع، كما أنّ المرأة تعبر عن أحاسيسها بالبكاء والشكوى، أما الرجل فلا يمكنه ذلك حتى لا يتهم بنقص الرجولة، كما أن الذكور يحتلون الفضاء العام أكثر من المرأة.

دراسة لم تكتمل

ترفض الأسر التونسية الخوض في دوافع أبنائها للانتحار أو محاولات الانتحار وملابسات ذلك بحسب مدير الديوان الجهوي للأسرة والعمران بالقيروان، الدكتور عبد الله الجلاصي، والذي حاول من خلال الديوان الذي يديره تتبع مسار شخصية المنتحر في القيروان من الطفولة، وصولاً إلى المدرسة، وكيفية تعامله مع المحيطين به؟ إلا أن دراسة “أسباب الانتحار في القيروان خلال الفترة من عام 2011 وحتى 2015 “، والتي شملت 30 عينة توقفت في مرحلة الاستبيان، على الرغم من توزيعه في إبريل/ نيسان 2016 نتيجة لإحجام الأسر عن التحدث عن أبنائها المنتحرين، في ظل معاناة نفسية يمرون بها وتستمر فترة طويلة عقب حوادث الانتحار، بسبب الضغوط المجتمعية والنظرة التي توجه إلى المنتحر، قائلاً لـ”العربي الجديد”: “مرور الزمن لا يمحي الألم الذي تشعر به الأسرة التي فقدت شخصاً عن طريق الانتحار، وفق ما شاهدته”.

فتش عن العوامل الاقتصادية

يمكن الربط بين أسباب الإقدام على الانتحار في محافظة القيروان وعوامل اقتصادية واجتماعية وعائلية، بحسب الاختصاصية الاجتماعية، ريم السعيداني، المنحدرة من معتمدية العلا بالقيروان، والتي قالت لـ”العربي الجديد”:” التهميش، وانتشار الفقر واليأس في صفوف الشباب من أهم أسباب الانتحار”، مضيفة أن كثيراً من المؤشرات تدعم تصدر القيروان باقي الولايات التونسية الأخرى في الانتحار، ومن هذه المؤشرات، بحسب المدير العام لمعهد الإحصاء، الهادي السعيدي، ارتفاع نسبة الأمية في القيروان إلى 35%، كما أن 30% من العائلات هناك لا تملك الماء الصالح للشراب، فضلاً عن ارتفاع نسبة الفقر إلى 34,9%، ويصل عدد العاطلين في الولاية إلى 26 ألف عاطل عن العمل من إجمالي 600 ألف نسمة هم قوام تعدادها السكاني، الأمر الذي يجعل القيروان من أقل المحافظات التونسية تنمية والأكثر فقراً، كما يقول السعيدي لـ”العربي الجديد”.

وتظهر تقارير المرصد التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بالقيروان أنّ 7 حالات انتحار ومحاولات انتحار في 2017 كانت لأسباب اقتصادية، و5 حالات لأسباب اجتماعية و6 حالات لأسباب عائلية و4 حالات بسبب الدراسة، وفي عام 2016 كان الدافع الاقتصادي هو الأول لانتحار 9 أشخاص في القيروان، في حين وقعت 12 حالة لأسباب اجتماعية متنوعة و8 حالات لأسباب عائلية.

محاولة للحدّ من الظاهرة

قررت وزارة الصحة التونسية بعث لجنة وطنية لمقاومة الانتحار، وهي لجنة فنيّة بالأساس تكوّنت في يناير/ كانون الثاني 2015 هدفها معالجة ظاهرة الانتحار، وفقاً لرئيسة اللجنة الدكتورة فاطمة الشرفي، والتي قالت لـ”العربي الجديد”، إن البرنامج الأول يقوم على تكوين 30 طبيباً و19 اختصاصياً نفسياً، مضيفة أن البرنامج سيمتد إلى 2019 وسيشمل 2000 طبيب بهدف اكتشاف الأشخاص الذين يُعانون من العزلة، أو قاموا بمحاولات انتحار، على أن يشمل أغلب المناطق، من دون استثناء، أما البرنامج الثاني فسيعمل على تحديث أرقام السجل الوطني لإحصاءات الانتحار، كما تقول.

توعية وقتية لم تستمر

تعتبر القيروان من أهم وأقدم المدن الإسلامية، إذ يعود تأسيسها إلى عام 670 ميلادي ولقّبها الفقهاء برابعة الثلاث بعد مكة والمدينة المنورة والقدس، ومع تزايد أعداد المنتحرين في القيروان، استنجدت الفاعليات المجتمعية ببعض أئمة المساجد ورجال الدين، ومن بينهم خطيب جامع عقبة ابن نافع بالقيروان الشيخ اسكندر العلاني، والذي أكّد لـ”العربي الجديد” تنظيم لقاءات عدة بين مختلف الأطراف الاجتماعية والنفسية والدينية خلال عام 2014 في القيروان لبحث الظاهرة، لافتاً إلى أهمية الجانب الوعظي لمواجهة الظاهرة، مع التشديد على أهمية اعتدال الخطاب الديني، والبعد عن الوعيد والتحذير من العقاب، والاعتماد على رفع المعنويات قائلاً “الله أمرنا بالتفاؤل، وتم حث أئمة القيروان على التركيز على هذا الجانب في خطبهم، في محاولة لتوعية الناس بمخاطر هذه الظاهرة”.

ويعترف العلّاني بأنّ أغلب الخطب والحملات التي نظمت كانت وقتية ولم تتواصل، في ظل تنامي الظاهرة وتنوّع أسبابها، كما وقع لشاب عشريني من منطقة أصيل وهي المنطقة الريفية التابعة لمعتمدية القيروان الجنوبية أقدم في 11 سبتمبر/ أيلول الماضي على وضع حد لحياته بطلقة نارية بالقرب من منزل والديه، بعد رفض عائلته السماح له بالهجرة غير الشرعية، وتلاه آخر يعمل في شركة الأحياء والتنمية الفلاحية في حفوز أقدم على محاولة الانتحار حرقاً في 14 سبتمبر/ أيلول بعد إيقافه عن العمل، غير أن زملاءه نجحوا في إنقاذ حياته، الأمر الذي يراه الباحث في علم الاجتماع بجامعة العلوم الإنسانية والاجتماعية في تونس، عبد الستار السحباني، “عدوى تُنقل بين أرياف القيروان الأكثر فقراً”.

العربي الجديد
اظهر المزيد

اترك تعليقك

زر الذهاب إلى الأعلى