خصومة غالانت ونتنياهو الدرامية والمتلفزة.. عواملها وتوقيتها وتبعاتها المحتملة
عربي تريند
تشكّل رسالة وزير الأمن في حكومة الاحتلال يوآف غالانت، ليلة أمس، رسالة تحذير وصافرة إنذار وتعبيراً بلغة غير مسبوقة بحدّتها عن خط انكسار بينه وبين رئيسها نتنياهو، وهي بمثابة إعلان رسمي عن حالة شقاق لها تداعيات متعدّدة الاتجاه.
وجوهر رسالة غالانت تحذيرٌ من عدم وضع خطة لليوم التالي، حيث وجّه دعوة لنتنياهو للقول بصوته “لا لحكم عسكري ومدني داخل القطاع”، معلّلاً ذلك بالقول إن ثمن ذلك باهظ، بالدم وبالاقتصاد.
هذه الرسالة المشبعة بالتلميحات ضد نتنياهو هي لائحة اتهام يعلنها غالانت، خاصة وهو يتحدث فيها عن مخاطر الاستمرار بحرب دون جدوى، وعن الحسابات السياسية الفئوية، مثلما أنها بداية مواجهة علنية بينهما، كانت حتى الآن داخل الغرف المغلقة، والجديد فيها أنها تنم عن أزمة ثقة في ذروة حرب طالت وفشلت في تحقيق مرادها، رغم تدمير القطاع، وارتكاب جرائم بحق أهاليه من المدنيين.
أزمة ثقة بين الإسرائيليين في ذروة حرب طالت وفشلت في تحقيق مرادها، رغم تدمير القطاع، وارتكاب جرائم بحق أهاليه من المدنيين
لا شك أن خلف إعلان هذه الخصومة وتفاقمها بين غالانت ونتنياهو رواسب شخصية لجانب خلاف جوهري حول وجهة حرب باتت حرب استنزاف مكلفة للقوات المحتلة، ولإسرائيل وهيبتها، صورتها، ومكانتها، بعد سبعة شهور من شنها على قطاع غزة.
التوقيت
ورغم أن غالانت يطالب منذ شهور بما قاله أمس، بيد أن التوقيت، ليلة البارحة، ليس صدفة، فهو مرتبط مع الخسائر الباهظة التي مني بها جيش الاحتلال في الأسبوع الأخير، منذ بدء العملية البرية في رفح، وآخرها مقتل 5 جنود أمس داخل جباليا، ومرتبط بالخوف من التورط بحرب استنزاف و”لبننة الواقع في غزة”(على ما يحذر بعض الجنرالات)، ومن حكم عسكري، وبالفهم أنه بدون تهديد “حماس” ببديل سلطوي لا يمكن إنجاز صفقة تعيد محتجزين يتعرضون للموت يومياً.
ولا شك أن صرخة غالانت هي نطقٌ بلسان كل المؤسسة الأمنية، التي تدعو، منذ شهور، لإنهاء الحرب في هذه المرحلة، وقد تحوّلت لحالة استنزاف تتنقّل قوات الاحتلال فيها من موقع إلى موقع بعد احتلاله عدة مرات دون طائل. وسبق أن أرسلت المؤسسة الأمنية للإسرائيليين وصنّاع القرار رسالة واضحة بأن استمرار الحرب على هذا النحو نزيف دون جدوى، وذلك من خلال تسريبات صحفية، مراقبين ومحللين عسكريين مقرّبين، ومن خلال جنرالات في الاحتياط..
وما زال “نبي الغضب” الإسرائيلي، الجنرال في الاحتياط يتسحاق بريك، يحذّر من “الغرق في رمال غزة” نتيجة حرب استنزاف، منبهاً، مرة تلو المرة، لعدم وجود انتصار في هذه الحرب الفاشلة.
في مقال نشرته صحيفتا “هآرتس” و “معاريف”، يوضح بريك “إننا نخسر مقابل “حماس”، ونفقد مصر”، وأن قادة إسرائيل يقودونها نحو هاوية وكارثة غير مسبوقة عالمياً. ويقول بريك إن نتنياهو إما أنه يتصرف على هذا النحو عمداً، أو أنه “نزل عن السكة”، مؤكداً على عدم قدرة إسرائيل على تدمير “حماس” تدميراً كاملاً، وعلى أن المخطوفين يموتون، وعمّا قريب “لن يبقى منهم مخبر”.
بريك، الذي يدعو لوقف الحرب، وترتيب الخلاف مع “حزب الله”، والذهاب لإنعاش القدرات، والتجاوب مع الولايات المتحدة ضمن الصفقة السياسية الكبرى، يقول: “يومياً يقتل ويصاب جنودنا في هجمات متكررة في ذات المواقع التي قمنا باحتلالها منذ زمن، وهناك 100 ألف نازح إسرائيلي، بعدما خربت بلداتهم نتيجة هجمات “حزب الله” و”حماس”، علاوة على آلاف الجرحى، بينهم كثيرون جراحهم صعبة”.
نتائج وتبعات الخصومة المتلفزة
من النتائج المباشرة للخصومة المتلفزة بين نتنياهو وغالانت زيادة التوتر داخل الحكومة وداخل مجلس الحرب، المؤيد في معظمه لموقف غالانت، خاصة أن عدداً من الوزراء والنواب يطالبون بإقالة وزير الأمن، أو استقالته، فهل يقع الطلاق؟
رغم التوتر، المرشّح للتصعيد بين غالانت ونتنياهو وأنصاره، لا يبدو الطلاق قريباً، فهما متخاصمان لكن كلاً منهما غير راغب الآن بالطلاق، كل لحساباته. نتنياهو سبق أن جرّب “الطلاق” مع غالانت يوم بادَرَ لإقالته، في مارس/ آذار من العام الماضي، نتيجة تأييده للمحتجين على خطة “الإصلاحات القضائية”، فقامت القيامة، وخرج الإسرائيليون للشوارع، واضطر نتنياهو للتراجع، وإعادة غالانت للحكومة. وهكذا غالانت، فهو يعتبر استقالته الآن هدية لنتنياهو، ولذلك هو باق في كرسيّه الوزاري. من المرجح أن تصبّ هذه الخصومة العلنية الماء على طاحونة “حماس”، وتعزّز قوتها وروايتها، وتصلّب مواقفها في أيّ مفاوضات صفقة مستقبلية، وهي أصلاً خطت في اتجاه التراجع عن تليين مواقفها، كما انعكس في خطاب إسماعيل هنية، أمس، في ذكرى النكبة.
إن اجتماع عوامل أخرى، تزامناً مع هذه الخصومة، مثل استمرار النزيف في صفوف القوات المحتلة، ارتفاع صوت التحذير من المراقبين الإسرائيليين، والضغوط الخارجية، من شأنه أن يدفع المزيد من الإسرائيليين للاحتجاج ضد حكومة الحرب، ومن أجل وقفها لصالح استعادة المخطوفين، خاصة أن الشك بنوايا نتنياهو يتصاعد، والريبة بأهداف الحرب تتزايد، كما يتجلى في عريضة مئات من عائلات الجنود، التي طالبت، قبل أيام، بعدم إرسال أولادهم الجنود للموت في غزة دون طائل.
بعض المراقبين الإسرائيليين، أمثال المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس” عاموس هارئيل، يشكّك بأثر الخصومة المعلنة على الاحتجاج، وزيادة عدد المحتجين، لكن اجتماع العوامل المذكورة من شأنه زيادة سخونة الاحتجاج في الشارع الإسرائيلي لدرجة الغليان.
هل تتجه إسرائيل بعد نتنياهو لحل سياسي يعالج القضية الفلسطينية بالجملة بعدما قضمتها بـ “المفرّق” مراهنةً على الانقسام الجيوسياسي بين القطاع والضفة
كذلك شكّلت رسالة غالانت، التي تمرّد فيها على حكومته، صفعة للوزيرين غانتس وآيزنكوت، الملتزمين بالصمت، رغم خسائر إسرائيل، وعبث نتنياهو بمقدراتها، ولذا من المرجّح أن يؤدي هذا التطوّر لتقصير بقائهما في الحكومة، وداخل مجلس الحرب، الذي يبدو مفكّكاً، وهذا من شأنه أن يساهم في زيادة الاحتجاج في الشارع على نيّة نتنياهو إطالة أمد هذه الحرب عاماً، وربما لعامين، بدوافع فئوية، ليقول، عشية الانتخابات العامة القادمة: “لقد انتصرنا”. على هذه الخلفية يوجّه المعلق الإسرائيلي البارز أوري مسغاف، في صحيفة “هآرتس” اليوم، دعوة لـ الوزير آيزنكوت للنهوض، وأخذ زمام القيادة والخروج من هذه الحكومة الفاشلة.
نصر مفقود
وسارع نتنياهو للرد على غالانت بردّ متلفز، ضمن صراع داخلي على الرواية، وعلى وعي الإسرائيليين المنقسمين حيال الحرب، وجهتها ومستقبلها وطريقة إدارتها، فقال، مبرراً لماذا يرفض “اليوم التالي”، إنه دون إسقاط “حماس” لا يوجد فرصة حقيقية لاستبدالها بسلطة جديدة.
نتنياهو، الذي رفض في السنوات الأخيرة “حماس” وعباس، وراهن على تكريس وتعميق الخلاف بينهما للإجهاز على فكرة حل الدولتين، قال، ليلة أمس، بلغة شعبوية، وهو يخاطب الإسرائيليين، عملياً: لا نريد “حماس ستان”، ولا نريد “فتح ستان”.
نتنياهو بذلك يبحث عن “حرب ستان”، و”نكبة ستان” داخل القطاع تستمر مطولاً مع حكم عسكري هناك يخدم أهدافه بالبحث عن نصر مفقود، أو صورة انتصار على الأقل، والإفلات من انتخابات عامة مبكّرة يريدها معظم الإسرائيليين الآن ويبدو سقوطه فيها محتوماً. كما أن نتنياهو أغفل في كلمته الحرب في الشمال، وتجاهلَ قضية المحتجزين.
تشهد القيادة الإسرائيلية جدلاً الآن حول دب لم يتم اصطياده بعد، في ظل قدرة “حماس” على البقاء عسكرياً وسلطوياً، وفي ظل تساؤلات عن رغبة وقدرة السلطة الفلسطينية على العودة للقطاع بدعم الاحتلال. ويبقى المؤكد أن إستراتيجية إدارة الصراع، أو حسمه، فشلت فشلاً ذريعاً، فهل تتجه إسرائيل بعد نتنياهو لحل سياسي يعالج القضية الفلسطينية بالجملة بعدما قضمتها بـ “المفرّق” مراهنة على الانقسام الجيوسياسي بين القطاع والضفة الغربية.