منوعات

ليس سراً ما يدور في العقل الصهيوني عن الإبادة الممنهجة كفاتحة للتهجير!

عربي تريند_بينما تدخل الحرب العدوانيّة الإسرائيليّة على غزّة شهرها الرابع، لا يبدو أن هنالك أي إشارات حول نهاية قريبة للعمليات العسكريّة، التي تستهدف القطاع. ومع استمرار القصف الجوي والبحري، والاختراقات البريّة على واحدة من أكثر المناطق كثافة سكانيّة في العالم تتفاقم الأزمة الإنسانيّة للمواطنين الفلسطينيين، الذين شرّد معظمهم خارج بيوتهم بعد تدميرها، وسط نقص حاد في إمدادات الغذاء والمياه النظيفة مع انقطاع الوقود والكهرباء.
وعلى الرغم من أن هذه المذبحة تنقل على الهواء مباشرة، ولا تكاد تخلو نشرة إخباريّة أو صحيفة يوميّة من صورها الموجعة ما تثير غضب جماهير عريضة حول العالم، بمن فيهم يهود غربيّون مقيمون في أوروبا والولايات المتحدة، فمن الجليّ أن الحكومات الغربيّة (والغالبية العربيّة) ليست معنيّة بالضغط على الكيان العبري لوقف العدوان، بل إنها مستمرة، بوسائل وقنوات مختلفة، بمدّه بأسباب البقاء، وتغطي توسعته لنطاق الحرب إقليمياً من خلال الاغتيالات وتهديد لبنان واليمن وسوريا، فيما تتعنت سلطات تل أبيب تجاه مبادرات الوسطاء الساعية إلى إجراء تبادل للأسرى ينهي مبررات استمرار الحرب، وتجدد رصد الميزانيات لتغطية تكاليف القتال لعدة شهور مقبلة.
كل ذلك يدفع بالمراقب إلى الاستنتاج أن المسألة لم تعد اليوم قضيّة أسرى تريد (إسرائيل) إطلاق سراحهم، أو مقاومين تسعى لاستئصالهم، بقدر ما هي عمليّة إبادة ممنهجة للفلسطينيين، تستهدف كسر إرادة صمود هذا الشعب في أرضه تحضيراً للتهجير، وإفراغ الأرض من أهلها كحل نهائيّ للقضية الفلسطينية.

ماذا يدور في العقل الصهيوني؟

إن مجمل المشروع الصهيوني قائم حتى من قبل الاتفاق على فلسطين كموضع لتأسيس دولة (قوميّة) لليهود على مبدأ «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». وفي الحالة الفلسطينية، فإن تحقيق هذه المعادلة تتطلب العمل على تفريغ الأرض من سكانها، وهو ما عملت عليه العصابات الصهيونية إبان حرب تأسيس الدولة العبرية في 1948، حيث نفذت عمليات تطهير عرقيّ وإبادة ممنهجة ضد السكان الفلسطينيين وتم دفعهم لمغادرة بيوتهم وأراضيهم، قبل تنفيذ برنامج شامل لتدمير القرى وأحياء المدن العربيّة وإسقاط كافة مؤسسات المجتمع المدني وتخريب الحيازات الزراعية بموازاة تغييرات على الوضع القانوني لملكية الأراضي على نحو يجعل من المستحيل عمليّاً تحقيق عودة اللاجئين إلى بلادهم مهما كانت الصيغة المعتمدة لذلك. في تلك الأثناء راقب العالم الكيان بينما ينفذ هذا المخطط الإجرامي، وكافأه عبر تقاطر الاعترافات الرسميّة من الغرب والشرق على حد سواء، بما في ذلك الاتحاد السوفياتي البائد، والكتلة (الاشتراكية)، ناهيك بالطبع عن بريطانيا والولايات المتحدة – الدول الراعية – وبقية المنظومة الغربيّة.
والحقيقة أن صمود من تبقى من الفلسطينيين على أرضهم، واستمرارهم بالمقاومة بأشكالها المتعددة، وازدياد أعدادهم مع مرور الوقت، كل ذلك وضع المشروع الصهيوني في مأزق وجودي أشبه بقنبلة زمنية قد تطيح به بحكم الواقع الموضوعي المحض خلال عقود قليلة، ما استدعى ذلك السعيّ المحموم للتأكيد على «يهوديّة الدّولة» عبر تشريعات متلاحقة، والتهرّب من تنفيذ اتفاقيات أوسلو – على رغم انحياز تلك الاتفاقيات السافر لمصالح الكيان – مع ميل غالبية من الإسرائيليين إلى دعم الأحزاب اليمينية المتطرفة وتسليم الحكم إلى ائتلاف منها.
ولذلك، فإن الكيان كان سيصل حتماً إلى ضرورة حل نهائيّ لعمل اللازم نحو التخلص من الفلسطينيين المنزرعين في وطنهم، سواء بمبرر هجوم المقاومة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول أو من غيره، وهو استغل بكل الخبث المعهود عنه تعاطف الغرب العنصريّ مع الأسرى لدى المقاومة لإطلاق هذا الحل النهائي: إبادة، وتدمير ممنهج يؤديان إلى التهجير.

غزة في اليوم التالي: إدارة للفوضى وهجرة (طوعيّة)

الجانب الإسرائيلي، الذي يتمتع بغطاء أمريكي – أوروبي حاسم، شرع مسبقاً في وضع الخطط التنفيذيّة لمشروع تصفية ما تبقى من القضية الفلسطينية (أي الشعب الفلسطيني) في جناحها في غزة.
فالجيش الإسرائيلي عرض على الحكومة خطة السيطرة عسكريّاً على القطاع، ومن ثمّ تقسيم غزة إلى قطاعات أو «إمارات» مختلفة تحكمها عشائر أو قبائل ومافيات محلية تديرها وكالة الأمن الداخلي الإسرائيلي (شين بيت)، وتتولى تقاسم وتوزيع المساعدات الإنسانية التي تسمح (إسرائيل) بدخولها، مع إنهاء كل أشكال السلطات المدنية الموحدة لحكومة (حماس) الحالية. وفي حالة نجاح المشروع، فإنّه قد يطبّق أيضاً على مناطق الضفة الغربيّة بعد تفكيك السلطة الفلسطينية.
ووفق التفكير الإسرائيلي فإن من شأن استمرار الحرب تحويل العيش اليومي في القطاع أقرب إلى كابوس، ومقامرة لحظيّة مع الموت، ما قد يدفع بالكثير من الفلسطينيين إلى الهجرة بحثاً عن الأمان وحياة أفضل، وهو ما يسميه حزب رئيس الحكومة الإسرائيليّة (الليكود) بالهجرة (الطوعيّة).
وبالفعل فإن التقارير الواردة من الأرض المحتلة تقول إن الحكومة الإسرائيليّة تجري محادثات سريّة مع الكونغو في وسط أفريقيا، كما دول أخرى لتقبّل آلاف المهاجرين الفلسطينيين (طوعاً)، وأن حكومة كينشاسا – وفق تأكيدات مصدر من مجلس الوزراء الأمني نقلها موقع «تايمز أوف إزراييل» – كما غيرها، أبدت اهتماماً بالحصول على دفعات مالية مقابل استيعاب أعداد غير محددة منهم، كما أن السلطات الكنديّة أعلنت عن توسعها في قبول طلبات الهجرة الطوعيّة من غزّة.
وكان داني دانون، عضو الكنيست عن حزب الليكود وسفير إسرائيل السابق لدى الأمم المتحدة قد كشف مؤخراً عن أن دولاً من أمريكا الجنوبية وأفريقيا تعاني من مستويات عالية من عدم المساواة ويعيش أغلب سكانها تحت خط الفقر تبحث مع حكومة الكيان في إمكانيات استيعاب هجرة (طوعية) للفلسطينيين، وهو ما دعمته الأحزاب الصهيونية الدينية اليمينية المتطرفة الشريكة في الحكم مثل «عوتسما يهوديت»، بقيادة بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية، وإيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي، الذي أكد أن الحكومة أولا وقبل كل شيء ستفعل ما هو أفضل لدولة إسرائيل: هجرة مئات الآلاف من سكان غزة ستسمح للإسرائيليين في منطقة الغلاف (جوار غزة) بالعودة إلى ديارهم، والعيش في حماية جنود جيش الدفاع الإسرائيلي، بالإضافة إلى عتاة الدعوة إلى التهجير من حزب الليكود، الذي يتزعمه بنيامين نتنياهو، وعلى رأسهم جيلا غمليئيل، وزيرة الاستخبارات، التي قالت علناً بـ«إن الهجرة الطوعية (للفلسطينيين) هي البرنامج الأفضل والأكثر واقعية لليوم التالي لانتهاء القتال، فمشكلة غزة ليست مشكلتنا فقط» فعند نهاية الحرب، سينهار حكم حماس، تاركا السكان «ليعتمدوا كليّا» على المساعدات الإنسانية، ولذلك «فإن على العالم أن يدعم الهجرة الإنسانية، لأن هذا هو الحل الوحيد العملي الممكن». وفي اجتماع لحزب الليكود الأسبوع الماضي قال نتنياهو إن حكومته تعمل على تسهيل «الهجرة الطوعية» لسكان غزة.
هذه التصريحات، تقاطعت مع الأنباء التي تداولتها التلفزيونات الإسرائيلية عن تعيين توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني السابق وشريك الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش في الحرب العدوانية على العراق في منصب مبعوث أممي خاص يتولى إدارة عمليات الهجرة (الطوعية) للفلسطينيين مع غزة. ومع أن مكتب بلير سارع إلى نفي جانب (الهجرة الطوعيّة) من المهمة، إلا أن رئيس الوزراء البريطاني السابق التقى الأسبوع الماضي مع قادة إسرائيليين كبار لمناقشة ما سميّ بخطط لغزة ما بعد حماس، ووافق على العمل كمبعوث بين إسرائيل والدول العربية المعتدلة مع البحث في إمكانية استيعاب دول أخرى للاجئين من قطاع غزة.

لا راية بيضاء في غزّة

تعتمد جميع خطط (إسرائيل) لما بعد الحرب على هزيمة المقاومة الفلسطينية، التي ما زالت تحظى بتأييد أغلبيّة الأهالي في غزّة، وتقصف تل أبيب بالصواريخ وتكبّد القوات الإسرائيلية المتوغلة في القطاع خسائر فادحة بصفة يومية. على أن ذلك قد لا يكون كافياً في النهاية لوقف التهجير في ظل عدم تكافؤ القوى، ودعم الحكومات الغربيّة للكيان ما يمكنه من الاستمرار في مخططاته لإنهاك السكان في القطاع. ولذلك فإن كل ما تبقى لأهل غزّة هو دورنا كجمهور عربيّ للضغط بكافة الوسائل لوقف الإبادة ومنع التهجير. وإلا فنحن شهود بصمتنا، على هجرة أخرى. فليحضر عندئذ كل منا مبرراته كي يخبر أولاده كيف سمحنا في أيامنا لفلسطين بأن تسقط مجدداً في يد الصهاينة الأوغاد!

٭ إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن

اظهر المزيد

اترك تعليقك

زر الذهاب إلى الأعلى