العرب تريند

ثقافة سورية 2022: في انتظار ما لم يحدث بعد

عربي تريند_ مرّة أُخرى نجد أنفسنا أمام المفارقة نفسها: أنّ أهمّ ما حدث للثقافة السورية، خلال عامٍ من الزمن، هو ذاك الذي لم يحدث بعد.

لا تقوم هذه الملاحظة على تشاؤمٍ خالص، بل على أملٍ لا يجد حتى الآن ما يُحقّقه، ولا يني يُؤجَّل من عام إلى آخر، تاركاً خيبةً عميقةً في النفس كلَّ مرّة. وإذا كان هذا الأمل بحاجةٍ إلى تعريفٍ ما، فهو ذا: أن يُنتج سوريون ما يرتقي إلى التجربة التي يُقاسونها، وأن يضعوا أعمالاً تُضيء هذه التجربة لأنفسهم ولمُعاصريهم. لا علاقة لأمل كهذا بالمثالوية أو الخيال المُفرِط. سبق لسوريين أن أعطَوا أمثلةً عن تحقُّقه في ظروفٍ كانت، هي الأُخرى، صعبةً. نفكّر، مثلاً، بكتاب صادق جلال العظم “النقد الذاتي بعد الهزيمة” (1968)، الذي التقط لحظة الـ67 بقراءة نقدية وتحليلية جادّة وخارجة عن السرب في زمانه. ونفكّر أيضاً برواية “الوباء”، التي أعاد فيها هاني الراهب بناء عقود من التحوُّل الاجتماعي والسياسي في سورية، ضمن سردٍ لم يفرّط لحظةً بالتطلُّب الفنّي على حساب المُعالجة التاريخية والفكرية. هل شهد هذا العام ما يذكّرنا بعملين كهذين؟ طرحُ هذا السؤال هو، في حدّ ذاته، جوابٌ عنه.https://8eedcc61e89e260def65896d92c0fa2f.safeframe.googlesyndication.com/safeframe/1-0-40/html/container.html

نأخذ الكِتاب معياراً هنا، بينما الثقافة السورية تُخبرنا، هذا العام، مثل الأعوام القليلة السابقة، بأنّ أفضل ما عندها ينتمي إلى فضاءٍ آخر: عالَم الفنون. أمّا الكتب التي صدرت في 2022 وتناولت سورية برصانةٍ وجدّية، فقد أتت بالغالب، كما في السنوات الماضية أيضاً، من خارج البلد ومن غير السوريين. النماذج عديدة هنا، ونكتفي هنا بذكر اثنين منها: بالإنكليزية، كتاب ماكس فايس “استيتيك الثورات: تاريخ ثقافي لسورية البعثية” (“مطبوعات جامعة ستانفورد”)، الذي يحلّل التشابُك (والاشتباكات القليلة) بين أيديولوجيا النظام والاشتغال الثقافي خلال العقود الأخيرة. 

أمّا الكتاب الثاني، بالفرنسية، فهو من نوع آخَر: “سورية: البلد المحترق. الكتاب الأسود لعائلة الأسد (1970 – 2021)” (“منشورات سوي”)، الذي حرّرته كاترين كوكيو ونائلة منصور بالاشتراك مع جويل هوبريشت، ويجمع، في 850 صفحة من القطع الكبير، عدداً كبيراً من المقالات، والشهادات، والتحليلات، من سوريين وغير سوريين، واضعاً كلّ هذه المدّونة بين أيدي القرّاء الفرنسيين كوثيقة حيّة عن راهن سورية وماضيها القريب.

أفضل الكتب عن سورية، هذا العام، هي تلك التي وضعها غير السوريين

ومثل السنوات الماضية أيضاً، بقي الفنّ التشكيلي أكثر مجالات المنتَج الثقافي السوري حيويةً وقدرةً على اقتراح جديدٍ، وأكثرها، بلا شكّ، اتّساعاً وكثافةً. هذه السِعة تنطبق على جودة المعارض التي أقامها السوريون والسوريات، وعلى عددها وتعدُّد المدن والعواصم، العربية والغربية، التي استضافتها، وكذلك على التنوُّع الكبير في الأساليب والمواضيع والرؤى المقدَّمة. والأمر نفسه ينطبق أيضاً على تعدُّد الأجيال، نادر الحضور في أماكن أُخرى من الثقافة السورية. 

وإذا شهد هذا العام رحيل اثنين من كبار المصوّرين السوريين ــ أي إلياس الزيّات (1935 – 2022) وممدوح قشلان (1929 – 2022) ــ فإنه لم يبخل بتكريس مواهب جديدة تستكمل ما بدأه الروّاد وتُضيف إليه. ويمكن هنا إعطاء مثالين من جيلين متقاربين: أنس البريحي (1991)، الذي عرض لوحاته الكريمة بألوانها وأشكالها وشِعريّتها في بيروت وباريس ونيويورك، وشادي أبو سعدة (1983)، الذي قدّم، في بيروت وبرلين والقاهرة، أعمالاً تُقدّم سنوات المراهقة بلغةٍ لم نعتدها، في التصوير السوري، منذ لؤي كيّالي.

لا بدّ من التساؤل، هنا، عمّا يشكّل حاملاً لهذا التميُّز في مجال الفنون الجميلة، وعمّا يُتيح وجود العديد من التجارب الرصينة والجدّية في كلّ جيل من أجيال التشكيليين السوريين. العلامة الأبرز، ربما، في هذا السياق، تتمثّل في أنّ جميع الفنانين والفنانات الذين نعرف تجاربهم درسوا في معاهد الفنون الجميلة بسورية، وهي معاهد معروفة باستقبالها أعداداً قليلة نسبياً من الطلّاب الذين يجتازون امتحانات قبول ويَجمعون، في مساراتهم التعليمية، بين النظريّ وكثير من الممارسة العملية. أمورٌ لا نجدها، بالضرورة، في كلّيات العلوم الإنسانية والآداب، التي لم نعتَد أن تزوّد المشهد السوري، كلّ عام، بتجارب تلفت الأنظار.

لم يكن هذا العام أكثر أعوام السينما السورية إنتاجاً. وما يستحقّ الملاحظة، هنا، هو الانحسار في جديد الأشرطة الوثائقية، بعد التدفّق الكثيف الذي عرفته خلال الأعوام الماضية. هل الأمر يتعلّق بالبُعد عن البلد وأهله، أَمْ باستهلاك المخرجين وصانعي الأفلام لِما في جعبتهم من موادّ مصوّرة خلال شهور وسنوات الثورة الأولى؟ ربما هذا وذاك.

يرحل تشكيليون كِبار وتولَد تجارب جديدة في الرسم وتُكرَّس أُخرى

لكنّ الأكيد أن السينما السورية الجديدة، تلك التي راح يوقّعها المخرجون والمخرجات الشباب المقيمون بشكل أساسي خارج البلد، لم تستطع حتى اليوم اقتراح أعمال روائية تفوق أو تنافس على الأقلّ ما تُنتجه مؤسّسات النظام السوري من أعمال. ولا يمكننا، في هذا السياق، إلّا أن نشير إلى فيلم “الطريق”، الذي حاز ثلاث جوائز في “أيام قرطاج السينمائية” لهذا العام، والذي يستكمل فيه عبد اللطيف عبد الحميد (1954) حفرياته في تاريخ سورية انطلاقاً من الساحل السوري وريفه، ضمن لغته الخاصّة التي تجمع بين التهكُّم والبلاغة.

وبخلاف السينما، فإن الفنون المسرحية والأدائية السورية تبدو أكثر تأقلماً مع شرطها الجديد، المتمثّل بشكل أساسي بضرورة العمل خارج البلد (في أوروبا على وجه الخصوص)، وفي كثير من الأحيان مع فنّانين من البلدان التي يقيم فيها الفنانون السوريون. إعادةُ البناء هذه قادت، خلال السنوات الماضية، إلى ولادة العديد من التجارب، وهي تجارب أعطتِ العديد من الثمار هذا العام، كما هو الحال مع “تجمُّع مقلوبة” في ألمانيا، الذي تدور في فلكه مجموعة من الممثّلين والكتّاب والمخرجين المسرحيين، والذي قدّم، خلال هذا العام، أكثر من عنوان بارز، مثل “هناك في الأعلى”، وقبله “إجراء شكلي” و”عودة دانتون”. كما عاد المخرج والكاتب السوري أسامة غنم، قبل أسابيع، بعمل جديد، “شمس ومجد”، قدّمه في بيروت وتونس.

اظهر المزيد

اترك تعليقك

زر الذهاب إلى الأعلى