العالم تريند

فورين بوليسي: تقارب الزعماء العرب مع الأسد صورة عن إعجابهم بديكتاتور أتقن لعبة الانتظار وعلّمهم الإفلات من كل شيء

 عربي تريند_ قالت بينيت شيلر، مديرة مكتب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمؤسسة “هينرك بول” في برلين، ومؤلفة كتاب “حكمة لعبة الانتظار السورية: السياسة الخارجية في ظل الأسد” إن العودة غير المحتملة لرئيس النظام السوري بشار الأسد، ومحاولة دول المنطقة إصلاح العلاقات الدبلوماسية معه، هي رسالة لمنتهكي حقوق الإنسان أنهم يستطيعون ارتكاب جرائم ويفلتوا من العقاب.

وجاء في مقالها الذي نشرته بمجلة “فورين بوليسي” أن الأمور تبدو جيدة بالنسبة للأسد، فقد تحدث معه الملك عبد الله الثاني لأول مرة منذ عشرة أعوام، وزاره وزير خارجية الإمارات، الشيخ عبد الله بن زايد، والتقى مدير المخابرات السعودي خالد بن علي الحميدان مع نظيره السوري حسام لوقا في القاهرة. وكجزء من محاولات مصر إعادة سوريا إلى الجامعة العربية، قامت بمبادرات ودية خاصة بها تجاهها.

وبعد عشرة أعوام على تحرك الأسد لقمع المظاهرات السلمية بالقوة، يبدو أن التيار يسير لصالحه. وتساءلت الكاتبة عن الطريقة التي استعاد فيها الأسد رضى العالم من جديد، مع أن الحرب الأهلية السورية هي الأكثر توثيقا في التاريخ، وبوجود إثباتات على استخدامه الأسلحة الكيماوية. وتجيب الكاتبة أن هناك عوامل واضحة، مثل الغطاء الدبلوماسي الذي قدمته الصين وروسيا لنظام الأسد في مجلس الأمن، والدعم العسكري الروسي والإيراني، وبدونه كان جيش النظام السوري الذي فقد نصف قواته عام 2013، سينهار. واستفاد النظام من فشل التدخل العسكري في أفغانستان والعراق وليبيا، مع أن هذه الحروب حدثت في ظل ظروف مختلفة. لكنها سوابق تم استحضارها لرفض خيار التدخل وحتى قبل مطالبة المعارضة السورية به.

الأمور تبدو جيدة بالنسبة للأسد، فقد تحدث معه الملك عبد الله الثاني لأول مرة منذ عشرة أعوام، وزاره وزير خارجية الإمارات، الشيخ عبد الله بن زايد

وبناء على هذه السوابق، يمكن فهم عدم التحرك العسكري ضد الأسد، لكن العملية الدبلوماسية الزاحفة، من الصعب تفسيرها أو تبريرها.

وكانت الكاتبة قد توقعت في كتابها الصادر عام 2013 وحللت فيه السياسة الخارجية للأسد، رفض النظام الضغوط الدولية، كما فعل حافظ الأسد من قبل، وانتظار البقية حتى يغيروا مواقفهم وهو ما فعلوه بشكل حتمي. لكن حدث استثناء لهذه السياسة في 1990 عندما خسرت دمشق راعيتها السوفييتية وواجهت خطرا وجوديا. والثاني في 1998، عندما هددت تركيا بالتدخل العسكري بعدما لم تعد قادرة على تحمل دعم النظام السوري لحزب العمال الكردستاني (بي كي كي) ومنحه الملجأ الآمن على أراضيها.

إلا أن النظام بالغ في القمع خلال العقد الأخير من الحرب، فهجومه الكيماوي عام 2013 والذي قتل فيه أكثر من 1.400 شخص كان خرقا “للخط الأحمر” وانتهاكا للمعايير الدولية، وترك تداعيات أبعد من سوريا. وكانت هذه الأزمة كافية لأن تجبر الأسد على التنحي عن السلطة، لكنه انتظر مرورها وتجاهل الالتزامات المفروضة عليه من كيري- لافروف عام 2016 والتي طالبته بالتخلي عن برامجه الكيماوية. وخلافا لهذا، صعّد من الحرب واستمر في استخدام السلاح الكيماوي.

وتعتقد الكاتبة أن فعالية لعبة الانتظار التي مارسها الأسد يمكن فهمهما عبر نظرة أنصاره إليه باعتباره “أقل الضررين”، وهي نظرة ظلت قائمة ما بين 2013 وحتى هزيمة تنظيم الدولة، وهو التنظيم الذي جعل الناس ينسون مذابح الأسد والتعذيب في السجون وإن كان على قاعدة أوسع. وعندما يقدم النظام نفسه على أنه لاعب عقلاني مستعد للدخول في حوار استراتيجي، فإنه يستطيع الانتظار حتى تنجلي موجة التركيز السلبية.

ونبع نجاح النظام من إقناعه اللاعبين الدوليين بأنه مهتم بإدارة البلاد فقط، وأن العنف ضروري ولو كان مفرطا من أجل الحفاظ على البلد. ونجح النظام بسبب تمسك اللاعبين الدوليين بالأماني واستعدادهم لتصديقه. فقد افترضوا أن الأسد سيتعامل بشكل بناء عند نقطة ما، بدون ضغط خارجي. والخيار بالنسبة لهم هو بين الأسد والفوضى، أو بين الأسد وتنظيم الدولة، وأن عملية الانتقال السياسي ستحصل بتعاون الأسد فقط.

ومنذ اندلاع الانتفاضة عام 2011، ركز النظام جهوده الدبلوماسية، وبشكل رئيسي على الأمم المتحدة، إما لأنه لا يثق برجاله أو بسبب القيود المفروضة عليهم للسفر. وطالما اتسمت السياسة الخارجية للنظام السوري بالتشعب. ومن أجل التعامل معها بجدية، استخدمت عائلة الأسد عددا من الأساليب. فقد أقام حافظ الأسد، وعلى مدى سنين علاقات مع لاعبين من عدد من الدول، فلسطين، لبنان، تركيا، العراق والأردن، والذين يمكن تفعيلهم لتعزيز فرصه الدبلوماسية، واستمر هذا مع ابنه بشار، فنقل الجهاديين إلى العراق عام 2003 والسنوات اللاحقة والاغتيال السياسي لرئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري، أهم مثالين موثقين حتى الآن.

ولأن النظام يريد أن يتم التعامل معه كقوة مهمة للاستقرار في المنطقة، فإنه وبطريقة متناقضة ظاهريا، يعمل على زعزعة الاستقرار، ويحصل على نتائج. ونجحت الإستراتيجية في لبنان، وعبّرت عدة إدارات أمريكية عن استعدادها لغض النظر عن اختراق النظام للجهاديين ونقلهم للعراق من أجل استهداف القوات العراقية. ومن بين جيران سوريا، استطاعت إسرائيل ولمدى محدود، وتركيا الدفاع عن نفسيهما.

ومثل بقية الأنظمة الديكتاتورية، كان الأسد مستعدا للتساهل مع المعارضة الداخلية، طالما ظلت صغيرة ومنقسمة وعملت ضمن معايير مقبولة. لكنها تصبح تهديدا له عندما تتحول إلى حركة ثورية سلمية بمطالب حقيقية للتغيير السياسي وتقدم بديلا سلميا، وعليه فقد تحرك بقسوة لقمعها. ففي عام 2011 و2012 اغتال النظام ممثلين جذابين للحركة السلمية مثل إبراهيم قشوش وغيث مطر، متجاهلا عن قصد الجهاديين الذين استطاعوا استخدام الإفراج عنهم من السجون وتوسيع شبكتهم.

فمهما كانت البدائل عن الأسد، ديمقراطية الرؤية وناشطون بنوايا حسنة، فإنهم واجهوا المحو أو تشويه سمعتهم على الأقل. ونجحت هذه الإستراتيجية جيدا مع “الدفاع المدني” أو “الخوذ البيضاء”. وكان القصد من هذا، هو خلق التشويش وزرع الرعب بين المراقبين، من أنه لا يوجد رجال طيبون بين المعارضة، بحيث يتساءل الدبلوماسيون والساسة والبقية فيما بينهم، بأنهم ربما يضحون بالاستقرار من أجل بدائل سيئة.

مثل بقية الأنظمة الديكتاتورية، كان الأسد مستعدا للتساهل مع المعارضة الداخلية، طالما ظلت صغيرة ومنقسمة وعملت ضمن معايير مقبولة. لكنها تصبح تهديدا له عندما تتحول إلى حركة ثورية سلمية بمطالب حقيقية للتغيير السياسي وتقدم بديلا سلميا

وتم استخدام حوادث إرهابية غامضة في سوريا ولبنان وتركيا لتخويف المراقبين من البديل القادم. ففي سلسلة من الهجمات الإرهابية بمدينة ريحانلي التركية، كان لدى المدانين فيها علاقات مع النظام السوري. وكان من السهل على الأسد استخدام شبكة الظل لتخويف لبنان الذي احتله حتى عام 2005. وفي 2012، اعتُقل الوزير السابق ميشيل سماحة بتهمة محاولة وضع 20 قنبلة أثناء زيارة البطريرك الماروني بشارة الراعي إلى شمال لبنان. وكان الغرض تصوير الهجوم على أنه محاولة هجوم من مسلمين ضد مسيحيين، ونُقل عن سماحة قوله: “هذا ما طلبه بشار”.

ووقف خلف هذه المؤامرة علي مملوك، المنسق لعدد من أجهزة الأمن السورية والمستشار الأمني للأسد. ولو نجحت هذه المحاولة، لحرضت على اللاجئين السوريين في لبنان ولأدت إلى حرب طائفية. وكان خلفها رسالة إلى الحكومة اللبنانية: “لو ذهبنا فستذهبون أيضا”.

وبدأ النظام بالتعويل على القوة العسكرية لحزب الله. فالجيش السوري كان في حالة يرثى لها بدون معدات وقوى بشرية بسبب الانشقاقات، ولهذا اعتمد على “الشبيحة” و”قوات النمر” لتنفيذ المذابح، وعلى حزب الله المنظم في ميادين المعارك. ورفض الأسد تخفيف الضغوط على حزب الله الذي بنى صورته بأنه حركة مقاومة لإسرائيل، وبات يواجه سخطا في قواعده حول قراره القتال في سوريا.

ولم ير الكثيرون أي معنى للقتال والموت من أجل الأسد، هذا إذا أضفنا السخط العام من وجود أكثر من مليون لاجئ سوري في لبنان. بل حاول الأسد استخدام ملايين السوريين الذين فروا إلى الأردن والعراق ولبنان وتركيا كورقة نفوذ. فقد استخدم الهجوم على مدينة إدلب التي يعيش فيها 3 ملايين نسمة معظمهم من النازحين، للضغط على الحكومة التركية التي تواجه سخطا من وجود اللاجئين السوريين، وأدت لأسوأ خسارة لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية عام 2019.

وعمق هذا الضغط من الخلافات بين أنقرة والاتحاد الأوروبي. وأدى تدفق اللاجئين السوريين إلى الاتحاد الأوروبي لصعود النزاعات الشعبوية المتطرفة. وهدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بفتح الباب أمام 3.6 مليون لاجئ إلى أوروبا بعد انتقاد الاتحاد الأوروبي لحملته العسكرية في شمال سوريا. فالفوضى التي خلقها النظام سمحت له بتقديم نفسه على أنه عامل الاستقرار. ولعب النظام نفس الورقة في محادثات جنيف التي يشارك فيها منذ 2012 وتهدف لتسوية سلمية، ووقف العنف بناء على قرارات مجلس الأمن الدولي، وهي نتيجة يحاول النظام تجنبها، وفي الوقت نفسه، لم تؤد أي جولة لتغير ملموس على حياة المواطنين السوريين. واجتمعت لجنة الدستور للمرة السادسة، لكنها لم تتفق حتى على المبادئ الدستورية.

ولم تكن محادثات جنيف واللجان الفرعية سوى مسرحا للمسؤولين السوريين كي يتسوقوا في أوروبا. وعبّر المبعوث الدولي “الصبور” بيدرسون عن خيبة أمله من نتائج الاجتماعات.

وكشف التقارب العربي الزاحف مع نظام الأسد عن محدودية النهج الأمريكي المضلل والمتهاون. فمنذ بدء المبادرات الدبلوماسية، فإنها فشلت بسبب غياب التهديد الحقيقي باستخدام القوة، وعبّر النظام عن استعداده للمشاركة بهذه المهزلة طالما ظل حرا لمواصلة عنفه. والمرة الوحيدة التي قدم فيها النظام تنازلات كانت عام 2013 عندما واجه ولفترة قصيرة إمكانية ضربة عسكرية. في المقابل لم تُخف غارات دونالد ترامب الصاروخية 2017- 2018 الأسد ولم تهدد نظامه.

ولا يوجد لدى النظام سبب يدعوه لتغيير سلوكه عبر الضغط الدبلوماسي، كما لم يعبر عن استعداد لتقديم تنازلات من أجل سلام دائم. ولم يلتزم النظام أو يعرض عفوا، ولا يوجد أي مثال على نجاح عمليات “المصالحة” في البلدات والمدن التي حاصرها. بل أدت اتفاقيات وقف إطلاق النار المحلية التي تبنتها الأمم المتحدة ومبعوثها ستيفان دي ميستورا إلى تقديم معظم سوريا لنظام الأسد، كما توصل تقرير للمجلس الأطلنطي.

وقام النظام في المناطق التي استعادها بالتحقيق في أي شخص يعتقد أنه ناشط ومع أفراد عائلته. واختفى من اعتقلوا. وظل موضوع 100 ألف اختفوا قسريا ملحّا، وحاولت عائلاتهم التعرف على مصيرهم. وبضغط من روسيا، أصدر النظام مئة شهادة وفاة لأشخاص، أكدت أن وفاتهم كانت لأسباب طبيعية. وهذه صورة عن النظام: فهو يتعاون رسميا ولكن ليس بطريقة جوهرية.

 وجانب آخر، هو استخدام النظام المساعدات الإنسانية كسلاح في حلب الشرقية حتى عام 2016 والغوطة الشرقية حتى عام 2018، حيث رفض تلبية مطالب الأمم المتحدة بوصول المواد الغذائية للمحاصرين، وسمح بوصول عدد محدود من الشاحنات، وقصف المواطنين الذين كانوا ينتظرون في أماكن التوزيع. وهو ما يدعو إلى الخوف،  فالدبلوماسية التي تتكيف مع نزعة الأسد القتالية هي رخصة لتوسيع انتهاكات حقوق الإنسان.

ومما يدعو للقلق الشديد، أن اللاعبين الذين يدعمون حملة التقارب مع الأسد لا تهمهم حقوق الإنسان. وهناك سبب وراء إصلاح العلاقات وخاصة الدول الجارة ،وهو أنها تحاول خلق ذريعة لدفع اللاجئين لديها للعودة إلى بلادهم. وهي بالضرورة لا تهتم بأمنهم، وتفترض خطأ أن النظام مستعد لاستقبالهم. وأخبر سياسي لبناني كان يحاول في عام 2017 التفاوض مع السوريين على عودة اللاجئين المثيرين للمشاكل من بلاده:”ما الذي يدعوك للافتراض أننا نريد عودتهم؟”.  وأكدت السلطات اللبنانية أن نسبة 20% من السوريين المسجلين كلاجئين حصلوا على تصريح من النظام للعودة.

الآن وقد عاد الأسد للوقوف على قدميه، فقد رجعت قوى الوضع الراهن. فالإمارات وبقية الدول المستبدة معجبة بالأسد؛ لأنه أضاف فصلا إلى كتاب نجاة المستبدين: كيف تنجو من كل شيء

وهناك سبب آخر للتقارب، وهو أنه بخلق هذه الدول موجة تطبيع مع النظام، فإنها ستستفيد من مال الإعمار الغربي لسوريا. مع أنه ليس من الواضح إن كان الغرب مستعدا للاستثمار، فقد التزم الاتحاد الأوروبي بشرطه، وهو أنه لا مال للإعمار بدون تحركات جدية للتسوية. وحتى الصين التي لم تقيد نفسها بشروط، لم تظهر بعد استعدادا للاستثمار الواسع مع أنها دخلت في مفاوضات مع النظام.

وبالنسبة للدول التي طبعت العلاقات، لم تلتزم بعد ما تعهدت به ماليا وهو دعم الاقتصاد والتعاون التجاري. وكل الدول المطبعة هي ديكتاتورية تتعاطف مع ديكتاتور مثلها يواجه ثورة. ولكونها مستبدة، فهي تفهم الأسد، ولهذا تتردد في تقديم معونات مادية له. والديكتاتور الذي يواجه أزمة، يطمح للحصول على دعم من يعتقد أنهم سيخسرون لو سقط وسيكسبون لو بقي، مثل إيران التي ستخسر تأثيرها الإقليمي، وروسيا التي تقدم سوريا لها فرصة لاستعادة موقعها بالمنطقة.

والآن وقد عاد الأسد للوقوف على قدميه، فقد رجعت قوى الوضع الراهن. فالإمارات وبقية الدول المستبدة معجبة بالأسد؛ لأنه أضاف فصلا إلى كتاب نجاة المستبدين: كيف تنجو من كل شيء. ويتعلم الآخرون دروس الإفلات من العقاب كما أشارت قضية مقتل الصحافي جمال خاشقجي.

وبالنسبة للدول الديمقراطية التي تريد نظاما دوليا قائما على حكم القانون، فسوريا هي مثال يدعو للقلق. فالمحاسبة على جرائم ضد الإنسانية أو البحث عن الاستقرار، يجب ألا تكون خيارا. كما أن توقع النظام لكي يغير سلوكه من نفسه، مع أنه لم يستجب لأي مبادرة، ليس تفكيرا واقعيا أوبراغماتيا، بل هو تعلل بالأماني. ولعبة انتظار الأسد لم تعد دفاعية. فهو يقضي وقته ويداه ملطختان بالدماء لكي يراها الجميع، أما بقية الديكتاتوريين، فيتعلمون منه كيفية الإفلات من العقاب، وهذا أمر غير مبشر بالخير.

اظهر المزيد

اترك تعليقك

زر الذهاب إلى الأعلى