العالم تريند

جيوسياسية المعابر البحرية.. بين حلم تركيا بقناة جديدة وطريق الصين عبر القطب الشمالي

عربي تريند_ تسبب انقطاع حركة الملاحة لبضعة أيام في ممر قناة السويس خلال الأسبوعين الماضيين في هلع كبير في الأوساط الاقتصادية في العالم بسبب الخوف من الخسائر التي قد تتعرض لها الشركات المتعددة الجنسيات وبعض الدول ومنها مصر.

وجاء الحادث ليبرز مدى أهمية المعابر المائية سواء تلك التي أنجزها الإنسان مثل قناتي السويس وبنما أو التي يفكر في تشييدها مثل قناة إسطنبول أو نيكاراغوا ثم أهمية المعابر الطبيعية مثل مالقا ومضيق جبل طارق وأساسا مضيق هرمز الاستراتيجي للطاقة علاوة على البحث عن بدائل وأبرزها رهان الصين على الخط البحري الروسي شمالا نحو أوروبا وأمريكا اللاتينية.

وتابع العالم خلال نهاية الأسبوع الأخير من شهر مارس/آذار الماضي، كيف تسبب جنوح سفينة عملاقة “إفيرغرين” في تجميد الملاحة في قناة السويس، وبلغت فاتورة الخسائر في الأسبوع الواحد أكثر من ثمانية مليارات دولار كخسائر للشركات العالمية و13 مليون دولار يوميا للاقتصاد المصري، أي رسوم العبور فقط. وإذا كانت العولمة تعتمد على آليات جديدة مثل الإنترنت التي تسهل العمليات المالية وتبادل المعلومات، ففي الجانب الآخر تعني ضرورة سرعة نقل البضائع من منطقة الى أخرى، وهنا يأتي دور الشحن البحري وأهمية المعابر أو المضائق البحرية الطبيعية منها أو تلك التي قام الإنسان بإنجازها مثل قناة بنما وقناة السويس.

رغم ارتفاع حجم الشحن الجوي في العالم يبقى دوره محدودا بسبب التكلفة العالية وصعوبة شحن الكثير من المواد مثل السيارات والآلات المنزلية

ورغم ارتفاع حجم الشحن الجوي في العالم يبقى دوره محدودا بسبب التكلفة العالية وصعوبة شحن الكثير من المواد مثل السيارات والآلات المنزلية. ويجري التفكير في الرهان مجددا على الربط السككي، وهنا يحضر المشروع الضخم لقطار الصين-أوروبا الذي بدأ يعمل وينقل البضائع في ظرف أسبوعين بدل شهر ونصف أو شهرين بحرا، لكن يبقى محدود الفعالية بدوره نظرا للطلب المتزايد على البضائع.

وتستمر الدول في تطوير التجارة العالمية عبر البحر، ويتم هذا عبر مستويين، الأول عسكري محض والثاني مدني-تجاري. وعلاقة بالمستوى أو العامل الأول، تتطلب حرية التجارة الأمن البحري في مواجهة القراصنة، وتتولى الدول حراسة مياهها الإقليمية بينما تتولى الدول الكبرى وخاصة الولايات المتحدة حماية البحار عالميا. وهذه الحراسة تعني تأمين مصالح الولايات المتحدة لكونها القوة التجارية الأولى في العالم وتنافسها حاليا الصين. وهذا من الأسباب التي تفسر تواجد القواعد الأمريكية في العالم. وتعمد الصين الآن الى بناء أسطول بحري ضخم يتواجد في بحار العالم لضمان نشاطها التجاري من القرصنة ومن تهديدات الدول مستقبلا، لا سيما وأنها ستصبح القوة التجارية الأولى عالميا.

ويبقى المستوى الثاني هو البحث عن بديل بحري للمعابر الحالية سواء من باب الاحتياط الأمني، أي الخوف من إغلاق معبر ما نتيجة حروب أو أخطاء كما وقع في قناة السويس أو نتيجة كارثة طبيعية، أو من باب البحث عن السرعة في الشحن البحري للرفع من التصدير والاستيراد لما له من ارتباط بالنمو الاقتصادي.

في هذا الصدد يوجد مشروعان يتبلوران، الأول آخذ في التبلور وتشرف عليه الصين، والثاني تشرف عليه تركيا.

الصين: من قناة نيكاراغوا إلى خط الشمال
بدأت الصين تزحف نحو مركز القوة الاقتصادية الأولى في العالم وتقترب من إزاحة الولايات المتحدة من هذا المنصب، وذلك بعد نجاحها في بناء أكبر طبقة متوسطة في التاريخ وارتبطت بها الكثير من دول العالم اقتصاديا، ولهذا تحمل لقب “معمل العالم”. وتدرك الصين أهمية الشحن البحري لاقتصادها ومستقبلها. وعلى ضوء هذا، تنكب على تقوية وجودها في المعابر الدولية. ويبقى هاجسها الأول في الوقت الراهن هو ضمان حرية الملاحة في مضيق ملقا الذي يربط المحيط الهندي بالهادي وتمر منه 80% من احتياجات الصين من البترول و30% من احتياجاتها النفطية، ويعد ركيزة أساسية لصادرات الصين وأساسا لمشروعها الضخم طريق الحرير الذي ترغب من خلاله هيكلة التجارة العالمية.

يبقى هاجس الصين الأول في الوقت الراهن هو ضمان حرية الملاحة في مضيق ملقا الذي يربط المحيط الهندي بالهادي وتمر منه 80% من احتياجات الصين من البترول

وضمن مشاريعها البديلة، درست الصين ما بين سنتي 2013 و2017 إمكانية حفر قناة نيكاراغوا لربط المحيط الأطلسي بالمحيط الهادي وتحويل القناة الى بديل لقناة بنما. وتوقفت الأشغال وجرى التخلي عن المشروع، ويوجد تأويلان، الأول بسبب الزلازل في المنطقة، والثاني هو ما يشاع عن إبلاغ واشنطن بكين بأنها لن تسمح لها ببناء قناة على مشارف حدودها وستعمل على استعمار نيكاراغوا. ولو كانت الصين قد نجحت في تشييد القناة لا سيما بعدما أبدت روسيا دعمها المادي واللوجيستي للمشروع، لكان منعطفا حقيقيا في تاريخ العالم لأنه يدشن العصر الصيني ليس في القارة الآسيوية بل في قلب القارة الأمريكية.

خلال سنة 2013، كشف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مناسبات متعددة عن رغبة بلاده إنشاء وتعزيز طريق بحري جديد للملاحة العالمية مستغلا ذوبان الجليد في القطب الشمالي نتيجة التغيرات المناخية الحالية. والخط سيسمح بالإبحار من جنوب شرق آسيا مرورا عبر اليابان والصين وروسيا ثم فنلندا والنرويج والاتجاه نحو الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحتى أمريكا اللاتينية.

وتفيد الدراسات الخاصة بالمناخ كيف تفاقم ذوبان الجليد خلال السنوات الأخيرة بشكل لم يحدث خلال القرن الماضي برمته. وتراجع الجليد سيسمح بفترات أطول خلال السنة للإبحار علاوة على تطوير روسيا لكاسحات جليد تعمل على مدار الساعة لضمان الخط البحري طيلة السنة. وإذا كان يمكن الإبحار من الصين الى شمال أوروبا ما بين يونيو وأكتوبر من كل سنة، فخلال السنة الأخيرة أصبحت المدة الزمنية ما بين مايو 2020 الى فبراير 2021، حيث هناك توقف لمدة شهرين فقط بفضل الكاسحات وذوبان الثلوج. وتلتقي مطامح روسيا مع الصين في طريق الشمال، لهذا تساهم بكين في تمويل كاسحات الجليد التي تعمل بالطاقة النووية، فمن جهة، روسيا ستستغل الطريق البحري في استخراج وتصدير الغاز الطبيعي والبترول وتعزيز مكانتها، ومن جهة ستضمن الصين لنفسها مصادر طاقة مستقرة وسهولة للتصدير نحو أوروبا والقارة الأمريكية، أي اختصار المدة الزمنية والمسافة في أكثر من الثلث.

نجاح الصين في تطوير طريق الشمال البحري سيعني: تقليلها من الاعتماد على مضيق ملقا من جهة، ثم التقليل من الاعتماد على قناة السويس التي قد تغلق بسبب الحروب أو حوادث مثل سفينة إيفرغرين من جهة أخرى.

تركيا نحو قناة بوسفور ثانية
ترغب تركيا في تعزيز موقعها الدولي خاصة في الشرق الأوسط وكحلقة بين الشرق والغرب ومحطة أساسية في طريق الحرير الصيني. وتبحث لنفسها عن مشروع قومي يحقق هذا الحلم. ويبدو أنها وجدت في بناء قناة إسطنبول أو قناة بوسفور ثانية الهدف المنشود. ويثير تشييد قناة إسطنبول الكثير من الجدل في الوقت الراهن بسبب ما ترتب عن رسالة وقعها قادة عسكريون متقاعدون بأن المشروع يخرق اتفاقية مونتيرو المتفق عليها في ثلاثينيات القرن الماضي.

ولكن المشروع يعود الى عقود، وبدأ يصبح واقعا منذ سنة 2011 بعدما بدأ رئيس الحكومة وقتها والرئيس الحالي رجب طيب أردوغان يتحدث عن ضرورة الانتقال الى التطبيق للتخفيف من الازدحام في مضيق البوسفور. ويعد هذا المضيق رفقة مالقا في جنوب شرق آسيا من المعابر التي يمر منها أكبر نسبة من السفن في العالم. فرغم شهرة قناة السويس، يمر منها 19 ألف سفينة سنويا (2020)، ويمر عبر بنما 13 ألف سفينة سنويا بينما يمر من مضيق البوسفور 53 ألف سفينة سنويا، ويبقى معبر ملقا الأهم بما يفوق 83 ألف سفينة سنويا.

وقد ترتفع الملاحة في مضيق البوسفور في حالة تحول تركيا الى حلقة رئيسية في طريق الحرير الصيني، إما باحتوائها مصانع صينية أو نهاية مسار بعض القطارات التي تنطلق من الصين نحو الشاطئ التركي لتكمل الرحلة بحرا نحو أوروبا، لتختصر المسافة البحرية عبر المحيط الهادي والهندي وقناة السويس. وعمليا، لا يجب أن يتحمل مضيق البوسفور أكثر من 25 ألف سفينة سنويا، أي 52% أقل من العدد الحالي. وإذا أصبحت تركيا مركزية في طريق الحرير، فسيكون مضيق البوسفور مزدحما بالسفن في صورة أشبه بوسط المدن الكبرى العالمية بسبب الازدحام.

وكشف وزير النقل والبنيات التحتية في الحكومة التركية عادل قره إسماعيل أوغلو عن المعطيات التقنية الخاصة بالقناة وهي أن طولها سيكون 45 كلم وعمقها 21 مترا وعرضها 275 مترا، في حين تبلغ التكلفة المالية 25 مليار دولار وسيكون الإنشاء على الجانب الأوروبي من المدينة انطلاقا من بحيرة بويوك جكمجة على بحر مرمرة جنوبا، إلى البحر الأسود شمالا. ولا تستبعد تركيا بدء تشييد القناة الجديدة في ظرف سنة.

وكما شهد العالم منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين تطورا في الطرق البحرية بفضل قناتي السويس وبنما، يشهد القرن الواحد والعشرون تطورا جبوسياسيا جديدا نتيجة تبلور طرق بحرية مثل قناة إسطنبول المرتقبة وطريق الشمال أو طريق القطب الآخذ في التبلور. ويقود المشروعان دولتان جديدتان، تركيا التي تعزز دورها الإقليمي، والصين التي تزحف نحو ريادة العالم. التاريخ يؤكد أن الرهان على البحر يقود الى بناء الإمبراطوريات والتقدم.

اظهر المزيد

اترك تعليقك

زر الذهاب إلى الأعلى