العرب تريند

أشكالُ مقاومة لا بدّ من ابتكارها

عربي تريند- في بداية الحجْر الجماعي، ربيعَ 2020، كان يخطر على بال الواحد منّا الكثير من الأسئلة. كنّا نعدّ الأيام لينتهي الحجْر. انقضّ القلق على صدورنا. تخيّلتُ: لو انتهى الحجْر، سنفتح الأبواب ونذهب إلى ذات الوجهة، إذ كنّا على وفاق، بعد أن تحدثنا على لسانٍ واحد، ساخرين عن حالنا من نوافذ الإنترنت. واعتقدتُ أنني سأعرف أهل بلدتنا لو غطّوا وجوههم. وعندما خرجت من الحجْر ورجعت إلى الواقع، لم أعرف إلى أيّ اتّجاه أنظر. ونحن الذين كنّا على وفاق؛ أصبحنا في ريبة، كنّا قد طرحنا الأسئلة، وبقيتْ عالقة في ذهننا، وتعلّق فينا القلقُ أكثر، لأننا لأشهر عشنا واقعاً جديداً من خيالِنا المُمْكِنْ، ثم أدركنا أنَّ الواقع يبدو أكثر تعقيداً من خيالنا.

أتى معرض “لكنّ هذه الأشكال يجب أن تُخترع” (مركز خليل السكاكيني، رام الله)، الخريفَ الماضي، ليعلن هذه الأسئلة، وليتداولها بين الجميع: “هل نستطيع أن ننظّم أنفسنا؟”.https://ad8ebbb9424332631fb64212018814a3.safeframe.googlesyndication.com/safeframe/1-0-38/html/container.html

من بين أقسام المعرض الستّة، طغى طابع المناظرات بين ثلاثة أطراف. في قسم “ماذا عن الخِراف؟”، تَشارك أصحاب الأعمال النظَرَ نحو الخِراف والأرض لإيجاد إجابة. فقلتُ، بالتأكيد، الخراف والأرض تعني بوضوح أنها أدوات الإنتاج والاكتفاء الذاتي، بالتالي يكون الأفراد أكثر مقدرة على التنظيم الذاتي لأنها مصدر دخلهم المستقلّ. هذه هي الطريقة للعيش خلال الجائحة أو في غيرها من الأوقات؛ بتربية الخراف والعمل في المزروعات.

كان شاغلُ الصهاينة دراسة طبيعة المجتمع الفلسطيني لتفكيكه

أكّد ذلك العمل الأول “حلمٌ من أرض وخراف”، لبنجي بوياجيان وحسن زواهرة، اللذين يخبراننا بعد أن حقّقا حلمهما بامتلاك أرض وخراف، أننا يمكننا العيش من الزراعة والرعي. وعرضا منتجات أرضهما على ثلاثة رفوف، ومن بين المعروضات مطرقة وفأس. ربما كانا على حقّ؛ سينتجان ما يكفيهما للخروج من حركة تداول الأموال المجبرَيْن عليها والمُحاصرَيْن فيها بعددٍ محدود يدخل البلد ثمّ يخرج فجأةً بلا بديل. إلّا أنّ عملاً آخر، هو “الغائبون: فصلٌ آخر” لزياد عدي (المغرب)، يرينا حكاية أُخرى: لماذا تتعطّل أداة الإنتاج. بفقرات قصيرة أسمعنا زياد أصوات أُناس غادروا قسراً أراضيهم لأجل الكسب، وبجانبها صور الطبيعة، داكنة، فارغة بعد مغادرتهم. يتساءل: لو لم يهاجر أصحاب الأراضي للعمل، مَن كان سيسدّ كفاف عوائلهم؟

لكنّ ملاك عبد الوهاب كانت قد اتّخذت من الخراف مثالاً آخر. لم تكن الخراف خرافاً عادية في عملها “خراف تقطع الأسفلت إلى غضّ الخضرة الشهية”. تقول: أثبتت الخراف أنّ تنظيمها هو الأمثل والأفضل طوال الوقت كجماعة شبه ذاتيّة التنظيم، لأنّ حياتها لم تتغيّر خلال الجائحة، ظلّت خرافاً، ذاهبة إلى الخضرة. وتجزم بأنّ البشر اجتاحهم الارتباك والفوضى.

وعندما كنت أتساءلُ كيفَ لها أن تمثّل التنظيم بـ”جماعة شبه ذاتية التنظيم”، انتبهتُ إلى أنّ العمل خلفي في منتصف الغرفة بين العملَيْن. كان المجسّم الثُّماني المُعلّقِ في الغرفة كالثريّا. لا تتعدّى مساحته تسعين سنتيمتراً مربّعاً، وارتفاع ضلعه سنتيمترات. وانتبهت أنّ له فتحة تتّسع للعينين؛ ألقيتُ نظرة. يقف في المنتصف خروف واحد، والضوء شديد، ناصع البياض، يتّجه نحو الخاروف الأبيض. ضوءٌ ناصع إلى درجة اعتقادي أنه بعد دقيقة سأسمع أصواتاً من الجنّة تقول إنني أمام الشيء المُنتظر.

"خراف تقطع الأسفلت إلى غضّ الخضرة الشهية" لملاك عبد الوهاب (من المعرض)
“خراف تقطع الأسفلت إلى غضّ الخضرة الشهية” لملاك عبد الوهاب (من المعرض)

جدرانُ المجسّم الثمانية، من الداخل، مكوّنة من مرايا، ما يوسّع رقعة العمل. انعكست صورةُ الخروف من كلّ جانب، حتى المدى الذي تسمح به المرايا المتناظرة، فتشتّت إلى خرافٍ لا متناهية، لا تتقارب بل تُبعدها المرايا عن بعضها، بما يتنافى مع معنى القطيع. وتأكل العتمة آخر خروف فيها. ربما ما زالت الخراف تأتي من الأسفلت.

يجعلني عنوان العمل أتساءل: ما من خراف تعيش على الأسفلت. لماذا لم تكن في الأراضي الواسعة؟

في الوقت ذاته، عادةً ما يكون القطيع قريباً من بعضه، متآلفاً، وهنا تغيّرت طبيعته؛ كلّ خروف منه يصبح منفرداً يحمل هموم الحياة اليومية، بل إنّ إطالة النظر في المرايا تُنسينا أنّه خروف وحيد في المجسّم وأن تلك صورٌ. لا أحد سينظر من الفتحة غيرنا؛ تلك حقيقة صورتنا على المرايا.

في السابق كنّا أكثر تداخلاً، ليس كتنظيم شبه ذاتي فحسب مثل الخراف، نأكل الخضرة مجتمعين، بل مثل النمل، ندلّ بعضنا على الغذاء. كانت لدينا “العونة”، وكانت تخلق نسيجاً اجتماعياً متيناً، شبكةً: الجيران يساندون جيرانهم. هنا بُنيت المرايا. كان الشاغل الأوّل للمشروع الصهيوني الاستعماري لاستيطان فلسطين، دراسة طبيعة المجتمع الفلسطيني في القرى والمدن لتفكيكه، وخلخلته، فكانت المرايا؛ كان شغلاً مهمّاً يتساوى مع تقطيع أوصالنا جغرافياً، ومع تشتيتتهم إرادتنا السياسية أيضاً.

لإيهامنا أننا في المكان ذاته، كأننا مجتمعٌ ونحن منفردون، وكلٌّ يهمّ بأكل الخضرة بمفرده، ونضيع عن بعضنا. ويصبح ما يستنتجه وما يحسّه كلّ فرد يتّخذ طابعاً فردياً، كأنّ لا أحد سواه فيه فيعمّم نظرته. وطالما ليس هناك تآلف، والأفراد غير مجتمعين، لن تتكوّن نواة شعب، أي في حالتنا تتفكّك مع تقدّم الزمن.

ولا أستطيع الانفكاك من تصوير المجسّم الثُّماني بأنّه الغيتو؛ أتصور ذلك خاصّةً أنني قطعت الطريق من نابلس إلى رام الله. رأيت جدراناً إسمنتية جديدة قيد الإنشاء بين حوارة وعورتا، وأعتقد أنّها بالضرورة ستفصل الطريق إلى بيتا. وينفَّذ إنشاء شارع جديد يوازي شارع زعترة؛ قد يكون الطريق الجديد بين نابلس المدينة ورام الله المدينة فقط. سيعزل الشارع نابلس، هي بالكاد محاصرة، وهو ما تبيّن بعد آخر هبّة في أيّار/ مايو الماضي، وأحداث قصف غزة، ما سيجعلنا نُشبه الخراف في المجسّم الثُّمانيّ وحولنا عتمةُ ظلال الإسمنت. 

يبدو العنوان الآن كأمنيةٍ للتحرُّر، ودعوة إلى كسر المرايا. جاء العمل مكمّلاً لمعطيات أسئلة التنظيم الذاتي: كيف تتعطّل أدوات الإنتاج، وأدوات التنظيم ذاتي.

أكملت جولتي، وأنا أحمل تلك الدعوة، فإذا بإحساس بالقلق أُضيف إلى طابع المكان. أي: هل الجدران جدرانٌ حقيقية، أَم كلّها مرايا؟ عُلّقت صورة بإطار ثخين لراعية تقف باتّجاهنا على يسار الصورة، وخرافها على يسارها، خلفهم قرية ما، وفوقهم جسمُ طائر غريب! الإطار خشبي ثخين جدّاً بحيث تبتعد حافّته سنتيمترات عن الصورة، ولونه لا ينسجم مع ألوان الطبيعة. غلاف الصورة محزّز يكشف للناظر عن حركة الجسم الطائر. 

لا أحد ينظر من الفتحة غيرنا؛ تلك حقيقة صورتنا على المرايا

يقول صاحب العمل، دانيال الياس، إنّ ذلك الجسم الطائر هو صورة طبيعية لطيور تسمّى الزرازير، هذا النوع من الطيور يُهاجر بأعداد ضخمة، ورغم ذلك تطير بانسجام لتخترق الهواء، فكلٌّ ينسّق حركته بانسجام مع حركة أقرب ستّة أو سبعة جيران له، والجيران من الزرازير تحلّق بذات الاتّجاه على مقربة ودون اصطدام، ما يخفّف جهد الطيران عن كلّ الطيور في السرب ويسهّل حركتها. استحضره كمثال للتنظيم الذاتي، ليعبّر عن أنّ انسجام مجتمع ما سيخفّف من عبء أفراده الجماعيّ؛ ويضيف أنّه من خلال ألواح تتحرّك مع الهواء، ستُمكّنه من استغلال الطاقة المُنبثقة من صوت همهمة الطيور لإنتاج كفاف الطاقة الكهربائيّة للقرية، ومن ذلك عنْوَنَ عمله “طاقة تطوف”.

"طاقة تطوف" لدانيال الياس (من المعرض)
“طاقة تطوف” لدانيال الياس (من المعرض)

ما أشرتُ إليه كجسمٍ طائر في سماء الصورة قبل قليل هو الآن مجسّم خشبيّ أسفلَ نظرتنا أمام الصورة، أعدّه ربّما من صوت الهمهمة. المجسّم من ذات لون الإطار الخشبيّ، لولبيّ ونهايته مفلطحة، أشبه بأداة حفر؛ لو أنّه موصول بمصدر طاقة سيصير كذلك.

السماء مفتوحة، زرقاء صافية في الصورة، لكنّ الراعية تبدو محتارة. السماء مفتوحة، زرقاء صافية، والتلّة خلف الراعية. المئذنة هناك تدلّ على القرية، وجودها في مركز الصورة يضفي شعور المراقبة. مَن سيجعلني أصدق أنها ليست صورة تركيب، وأنها لم تكن مستوطنة، وأنّ الصورة أعادت مكان القرية الأصلي: السماء مفتوحة، زرقاء صافية، شعور المراقبة يجعلني لا أصدّق شيئاً. أحسّ المئذنة برج مراقبة مُتَخَفّياً. شعور يطغى على الصورة. السماء مفتوحة، زرقاء صافية، الراعية تبدو محتارة وكانت بعيدة عن خرافها مطأطئة الرأس. ماذا رأتِ الراعية حتّى تسكت ولا تشير إلى شيء، ولا حتى إلى خرافها؟ هل رأت ما ظننت أنني رأيتُ أوّل مرّة؟ 

لو لم يقل صاحب العمل إنّ الجسم الطائر صورة طبيعية للطيور، لظللتُ أفكّر أنّه رسمٌ فنّيّ لشكل الطائرة الاستطلاعيّة، الزنّانة.

وبسبب وجودها المفاجئ فوقها وأمامها، بدت الراعية محتارة. لقد رأت الصوت أخيراً، فنحن لا نرى الطائرة الاستطلاعيّة بحكم أنّها تطير على مسافات عالية. نعرف وجودها بسماع صوتها، وأحياناً لا نعود نلاحظه رغم زنينها المتواصل إلّا حين تضرب ضربتها؛ حينها ترجع هواجس المراقبة تتربّص بنا كأنّنا لم نصدّقها من قبل. الشكل يمثّلها، الشكل الغريب. بشكلٍ ما تحفر القلق في الأنفس دون أن نحس. وعلى ذلك اتّفقنا على تسميتها بالمحكي: الزنّانة. من حيث المجاز، تلك هي الطاقة التي تطوف. أيضاً، ما الذي يؤكّد أنّ الألواح التي ابتكرها لم تلتقط صوت الزنّانة بدلاً من صوت الزرازير؟

من دون قصد أظهر اليأس الزنّانة بين أيدينا كجسمٍ صامت. حوَّل حفّار القلق من تهديد إلى شيء محسوس تحت مرأى العين وبين أيدينا. أُمسِك بالمجسّم الخشبيّ؛ أُقابل خوفي بفضول. عسانا الآن نشفى قليلاً من القلق الذي تثيره فينا الزنّانة بالقبض عليها بأيدينا وهي ساكتة لنسكّن الصوت المنبثق منها داخلنا. 

أخيراً مات الصوت.

ثم رميته بغير اكتراث خلفي. هناك زنّانة حيّة في نابلس. لعلّي أمشي تحتها اليوم مدركةً الخوف الذي تبعثه، فأجده عاديّاً وأميّز المرايا وأكسرها. ربّما، في وقت الجدّ، نواجه واقعنا بالفعل كما هو، ونكسر المرايا لنعثر على أيدي بعضنا ونضمّ بعضها إلى بعض ونخلق عونة جديدة، لا تحسّها أعين الصهيونية، بالمثل كما لم يجعلونا نحسّ بالزنّانة، فلا نقلق، لا في الجائحة ولا في غيرها من الأوقات.

هل التقط عمل الفنان صوت الزنّانة بدلاً من صوت الزرازير؟

صعدت إلى الطابق الثاني، لمشاهدة الأقسام الأخرى. أحدُها خُصّص لتقديم تعاونيات. تلك المشاريع، سيُراكم إنتاجها معرفة خاصّة بنا، دون أن نلحق خدعة الخضرة الشهية ونترك بعضنا بلا رجعة أو عائد مادّي أو معرفيّ، كخطِّ نملٍ ثابت. كانت تتدلّى من سقف تلك الغرفة أقنعة تشبه تمثال “مواي”، ذلك الرأس الصخري العملاق الذي يزِن أطناناً، وكانت أَرِقَةً.
 
كان يجب أن أنهي الجولة: يحتاج المعرض إلى الكثير من الوقت، ويستحقّ أكثر مِن كاتبٍ هاوٍ ليُلمّ بثمانية عشر عملاً وبحثاً وتدخُّلاً فنّياً، ويجمع بين الأقسام الستّة، ليكتب معطياتِ سؤال التنظيم الذاتي. في أيام السكاكيني، لم تكن أمامَه مُعطيات واضحة كما اليوم؛ انتقل إلى بيتٍ جديد في ظلّ ثورات شعبه، ثمّ هُجّر منه وسُرق البيت في مطلع حكاية الإبادة. كان قد أرّقه التفكير في إيجاد أجوبة عن التنظيم الذاتي، كان قلِقاً دائماً ويشعر بواجبه بالبحث عن رسالةٍ ما يبثّها في كتاباته لينتهجها شعب فلسطين للتحرُّر. سمّى بيته “الجزيرة” لأنّه أراد فتْحه للجميع. اليوم، بات المركز الذي يحمل اسمه جزيرة تصل إليها رسائل من كلّ العالم، كالتي وصلت مع معرض “لكنّ هذه الأشكال يجب أن تُخترع”.


* شاعرة من فلسطين

اظهر المزيد

اترك تعليقك

زر الذهاب إلى الأعلى