واشنطن تتحضر لعاصفة سياسية عنيفة
واشنطن الآن مثل الجنوب الأميركي في موسم الأعاصير؛ تنتظر العاصفة العاتية المحتوم قدومها والتي من المبكر تحديد أضرارها، فالتغييرات الانقلابية التي أحدثها الرئيس دونالد ترامب في وزارة العدل تهيئ المسرح لمواجهة يعد لها البيت الأبيض منذ فترة طويلة ويتحيّن الفرصة لخوضها مع المحقق روبرت مولر.
إقالة (في الواقع طرد) وزير العدل جيف سيشنز، كانت متوقعة ولو ليس بهذه السرعة. الجديد فيها والذي أثار حالة من الغليان، كان تكليف الرئيس لكبير مساعدي سيشنز، ماثيو وايتيكر، القيام بمهمة وزير بالوكالة لغاية تعيين بديل أصيل. قفز الرئيس من فوق نائب وزير العدل رود روزنستاين الأحق بالتكليف لأنه مساند للمحقق روبرت مولر، ليختار وايتيكر المعترض على هذا الأخير كما على التحقيقات الروسية من أساسها. حركته هذه تحاكي سيناريو الانقلاب في الوزارة ذاتها، والذي لجأ إليه الرئيس ريتشارد نيكسون لطمس التحقيقات في فضيحة ووترغيت.
ما قام به ترامب حتى الآن، لا يماثل ما أقدم عليه نيكسون آنذاك، والذي ضاعف من انكشاف الفضيحة التي انتهت بحمله على الاستقالة من الرئاسة، لكنه يشكل خطوة في هذا الاتجاه، فالوزير المكلف لديه من الصلاحيات ما يجعله رأس الحربة المحتمل لخنق التحقيقات، إن لم يكن الإطاحة بها. بيده قرارات تمويلها كما الموافقة أو الاعتراض على قرارات المحقق المتعلقة بتوجيه الاتهامات والمطالبة بالمزيد من الوثائق، أو المطالبة بالمزيد من توسيعها وغير ذلك. ولذلك يدور صراع حاد حول تعيينه.
الفريق المتوجس يعارض من باب أن تكليف وايتيكر بهذه المهمة “غير دستوري” لكونه يحتاج إلى موافقة مجلس الشيوخ ولو أنه مؤقت، يدعمه في ذلك تيار واسع في الكونغرس خاصة الجديد الذي يطالب الديمقراطيون فيه بضرورة رفع يد وايتيكر عن ملف التحقيقات. في المقابل، يرفض فريق البيت الأبيض عزل وايتيكر، ولا يجد ضرورة لموافقة مجلس الشيوخ ولو أن مرجعيات أكاديمية في القانون الدستوري، تؤكد العكس.
”
البيت الأبيض يرفض عزل المكلف عن التحقيقات ولا يرى حاجة لموافقة مجلس الشيوخ
” ترامب غادر إلى أوروبا وهو يمسك بالمبادرة حتى الآن. جولة المواجهة القانونية انطلقت. مولر يمسك بكثير من الأوراق غير المعلن عنها. تغييرات الرئيس بدت استباقية ربما لإحباط خطوات أو خلاصات “خطيرة” يتوقع فريق البيت الأبيض أن تنتهي إليها التحقيقات. ثم هناك كونغرس مختلف بدءاً من الثالث من يناير/كانون الثاني القادم. معه تتبدل قواعد اللعبة. مجلس النواب بأغلبيته الديمقراطية، يلوّح منذ الآن بإجراءات هجومية بشأن موضوع التحقيقات. وبذلك فإن المشهد السياسي قادم على مصادمات عنيفة لا تخفي أوساط عديدة خشيتها من تأثير سخونة الخطاب على وضع متوتر وصفه البعض بـ”حالة الطوارئ الوطنية”.
في الأسابيع الأخيرة، حصلت تطورات من النوع الذي حمل إلى دق ناقوس الخطر. وكلها ارتبطت بأجواء الخصومة السياسية المشتعلة. وقعت مجزرتان من القتل العشوائي الجماعي. وجرت محاولات اغتيال قيادات سياسية بالطرود المفخخة. وانفجر الاشتباك بين ترامب والصحافة بصورة مكشوفة وغير مألوفة وبما أدى إلى طرد مراسل “سي ان ان” من البيت الأبيض.
انفجارات متلاحقة أشعل فتيلها خليط من التوترات المحتقنة في ظل مناخ تفوح منه رائحة العنصرية الرافضة للآخر. وكانت هذه المناخات قد بلغت أوضح تعبيراتها في عملية تعيين القاضي بريت كافانو قبل ثلاثة اسابيع. ثم تفاعلت بدرجة حادة خلال الجولات الأخيرة لحملة انتخابات الكونغرس. ولا يبدو أن الدورة انتهت. فما جرى قد لا يكون أكثر من مقدمات. نتائج الانتخابات زادت من عمق الشرخ، شحنت الأجواء بالمزيد من عناصر التأزم والتوعد بتسديد الفواتير المستحقة والمستجدة، وهي مرشحة لتعميق الخصومة وتعنيف الصراع السياسي.
الولايات المتحدة، اليوم، سفينة تُبحر في مياه مضطربة وتعمل بنظام ملاحة معطوب ومشوّش، تسير باتجاه نهاية دراماتيكية لعام 2018، فلم يسبق أن ازدحمت ساحتها بمقدمات وعوامل أزمة مركّبة من العيار الثقيل، كما هو حالها اليوم.