غير مصنف

هندي أحمر… في شوارع الكويت!

محمد ناصر العلوان

لعقيدة تربوية ما في عقل والدي أطال الله في عمره على الطاعة ورفع مقامه وقدره قدر الاستطاعة، فقد كانت أول سيارة ركبتها في حياتي سيارة يابانية موديل 1994م اشتراها لي والدي بـ 400 دينار، لأقودها في شوارع الكويت عام 2003م، ولك أن تتخيل شكلها بثلاث عجلات طبيعية وعجلة رابعة مستعارة من دراجة نارية (سيكل)، وقد كانت السيارة تسير بالستر أكثر من كونها تسير بالطاقة والبنزين، فمثلا… إذا أردت أن تشغل «المكيف» فهذا يعني أن الراديو لن يعمل طوال الطريق، وإذا أردت أن تسمع الراديو فإن بوق السيارة لن يستجيب للضرب، وكانت بأربع نوافذ لا تستجيب للخفض والرفع، ما يعني أنها كانت صندوقاً أحمر اللون يسير بسرعة 80 كم في الساعة كحد أقصى، وإلا فإنها ستتراقص في الخط السريع للدرجة التي لن تحتاج معها لأجهزة تخسيس البطن والأرداف.

لقد كانت هذه السيارة معلماً حضارياً أثناء دراستي في كلية التربية خلال السنة الأولى ونصف الثانية، وكانت لديها القدرة على لفت انتباه أي شرطي مرور تخرج للتو لكي يحرر لي ما يشتهي من المخالفات التي قد تخطر أو لا تخطر على بالك… ابتداءً من سقوط القشرة الخارجية للهيكل وانتهاءً بكونها خطراً على المجتمع والنفس والسيارات الأخرى.

لقد نجحت السيارة في تحويل الواقع إلى فلكلور متحرك في الشوارع قد يعجبك عندما تشاهده في متحف، ولكنك لن تستطيع معه صبراً في المعاش واليومي والخطوط السريعة.

لقد سمحت لي تجربة قيادة سيارة مثل هذه في مجتمع يعشق السرعة أن أعيش بإيقاع بطيء لفترة محدودة لكي أتعلم الكثير قبل أن أنغمس في الإيقاع نفسه، ففي فصل الشتاء كان يجب أن أستيقظ قبل الشروق لأن السيارة تحتاج لكي تصل إلى الإحماء الطبيعي قبل الانطلاق لـ45 دقيقة، وفي حالة استعجالي وقيادتها قبل وقت الإحماء فلن تستجيب لدواسة البنزين مهما فعلت، أضف إلى ذلك أنها لن تتخطى سرعة 45 كم في الخط السريع إذا كانت درجة الحرارة تحت الـ 15 درجة مئوية، وأي محاولة لتخطي الحدود معها يجعلها تعاند من خلال عملية تقطيع مستمر ومزعج.

وهذا الإيقاع البطيء جلعني أكثر شخص على وجه الكوكب يتلقى كمية من السباب والبصاق والإشارة بالأصابع ابتداءً من السبابة وانتهاءً بالوسطى في الخطوط السريعة من السيارات المستعجلة.

أما في الصيف فالوضع كان مختلفاً، فقد كانت السيارة متعاونة للدرجة التي كانت فيها لا تتعطل إلا في المناطق الحيوية وأمام بيوت كبار الشخصيات!

لا شك أنني قد اكتسبت العديد من مهارات الحياة عبر قيادتي لمركبة تغرق من الداخل إذا أمطرت السماء في الشتاء، وتصبح «سونا» متنقلة إذا أشرقت الشمس في الصيف، وقد جعلني هذا أتامل الفصول الأربعة وأتطلع للسماء بحثاً عن الغيب وما يخبئه لي… أرجوه وأكلمه وأشكو إليه.

كما تعلمت التأمل في الحياة ومراقبة السلوك البشري بتواضع والسير بإيقاع بطيء في عالم متسارع، وتعلمت ألا أحكم على الناس من خلال ما يركبون أو يرتدون، بل تعلمت أنه ليس من أولوياتي أصلا أن أحكم على أحد… وتلمست معنى الغريب وعابر السبيل والحياء الذي قد يصيب المرء من عيون الآخرين، وهو أشبه بحيائك وخجلك وأنت تتعرى أمام طبيب!

وتعلمت أن أكون البستاني الذي ينتقي من الحياة والذاكرة ما يريد وليس ما يُفرض عليه، وتعلمت أهمية قراءة الفصل الأول بعد الانتهاء من أي حكاية متعددة الفصول لكي أحدد مدى عجز الإنسان وفضوله، وكبره وغروره، وجحده وكنوده.

كل هذا تعلمته من سيارة سعرها 400 دينار تسير بالليل بلا كشافات أمامية… تعلمته من سيارة تسير بالستر ليس إلا.

تذكرتها بالأمس فكتبتها لك اليوم… فشكراً للسيارة التي بعتها بـ 80 ديناراً…وشكراً لأبي ولعقيدته التربوية.

قصة قصيرة:

في عمر السنتين تعلم الكلام ووقع أسير الملكية الخاصة وألوان الحلوى…في العاشرة لفت انتباهه الأصفر وشكل الموزة… في العشرين لفت انتباهه الأحمر وجسد المرأة…في الثلاثين أحب الأزرق وهدوء السماء… في الأربعين تعلم الصمت وقوس قزح وقيامته الصغرى.

كاتب كويتي

moh1alatwan@

اظهر المزيد

اترك تعليقك

زر الذهاب إلى الأعلى