غير مصنف

عزوتي /مشهد رأسي

محمد ناصر العطوان

كنت في موعد أرجأته أكثر من مرة مع المبادرة الشبابية التي أسسها عبقري العمل التطوعي في الأردن محمود النابلسي، فوجدت نفسي في مشهد من تلك المشاهد التي تجعلك عاجزاً عن الكتابة، فالمعاني الجميلة حقاً لا تُكتب، لأنها حرة حد الإحساس فقط.

بدا المشهد كله رأسياً بسبب أنني جئت من جهة تجعلني أنزل للمكان الذي أنشده بدلاً من الصعود إليه، وما إن وقعت عيني على مجموعة من الشباب والشابات مع لوحة خشبية كبيرة معلقة في وسط المكان الذي يربط بين جدارين، بحيث إذا كنت نازلاً أو صاعداً من الدرج لا بد وأن تلاحظها، حتى عرفت أنني وصلت وجهتي… لوحة حفر عليها «عزوتي».

ومبادرة «عزوتي» هي مطعم اجتماعي تلتف حوله مجموعة كبيرة من المعاني وتتوحد فيه، بدءاً من كيفية إحضار الطعام للمطعم وانتهاء بكيفية بيعه وشكل العلاقة بين البائع والمشتري،والمتطوع والمجتمع، والمكان والأشخاص الذين حوله، ومعانٍ جميلة تجعلني أنسى ما كتبته لأبحث عن ما لم أكتب بعد.

كنت في رحلة لأبحث عن «عزوتي» الذين ليسوا من بلدي… وكانت وجهتي هذه المرة الأردن.

الرجل المسن الجالس بجانبي يأكل مما أنتجت أرض الله، ولا أعلم هل هو عازم أم معزوم،حيث إن كل وجبة يشتريها جائع ويدفع ثمنها، يقع مثلها بالمجان في بطن جائع مثله… هذا هو مشهد المبادرة الشبابية العام الذي أطلقوا عليه اسم «عزوتي».

ورغم ذلك، فليس هدف هذا المشروع هو سد الجوع بقدر ما هدفه إظهار التماسك الاجتماعي والتكافل بصورة تظهر في شكل العزوة والمساحة التي لا يعلم فيها الناس من العازم ومن المعزوم.

وما يجعلنا لا نطلق على مشروع مثل هذا لفظ «التكية»، هو القيمة المضافة المتمثلة في شكل التفاعل الاجتماعي بين الشاب المتطوع وبين المجتمع، وبين المجتمع وطبقاته، وبين طبقاته بشكل مرئي ولكنه خفي… فاليد العليا تكون في الخفاء. إنه شكل من أشكال ضمان حيوية القديم المتمثل في«الوقف الإسلامي» واستدامة الجديد المتمثل في النماء والتنمية.

أما في ما يتعلق بإدارة العمل، فهو «مشروع غير ربحي»، وهكذا كتب على واجهة المطعم، تديره مجموعة من الشباب المؤمنين بفكرته بمن فيهم الشاب اللطيف مخلد الذي شرح لي آلية عمل المبادرة التي تجعل عينيك تتوهان في طاقة الألوان المنشورة حوله.

أعلم أن إحدى القنوات قدمت تقريراً صغيراً عن مبادرة «عزوتي» في الأردن، ولكن ليس الخبر كالمعاينة. فبمجرد أن شبع الرجل المسن الذي بجانبي، حتى أخرج ناياً خشبياً ملفوفاً على أجزاء منه لاصق (تيب كهربائي) لكي يحميه تفتت الزمن ثم بدأ يعزف موسيقى محلية أردنية لم أعرفها، ولكن تفاعل أطفال جمعية الأيتام الذين ملأوا المكان بالحب معها، أجبرني بجبر الرضا أن أتفاعل معهم.

رجل آخر وثلاث سيدات أخذوا ما أخذوا واختفوا في الممر اللولبي… ولكنهم تركوا خلفهم انطباعاً ما.

سمعت أحد الأطفال يقول لمشرفة جمعية الأيتام «أنا شبعان… ولكنني أريد أن أشتري وجبة لأحد وأعلق ورقتها على اللوحة».

المكان صغير من الداخل، وبمكونات مطبخ منزلية ولوحة معلق عليها بالدبابيس رسائل من العازم للمعزوم يكتب له فيها «بالعافية، صحتين، بالحب، من أخيك الذي لا تعرفه…»، وكل ما يخطر على بالك من عبارات نابعة من القلب. ورغم أن المطعم صغير، لكن فضاء المكان واسع جداً… ولا أدري هل شكل التفاعل هو من خلق الفضاء أم أن فضاء قلوب المتواجدين ساعد على هذا التفاعل؟

كنت أفكر وأنا أكتب هذا المقال عن شكل العيد الآن هناك في «عزوتي»… هل تجمع العازمون والمعزومون وذاك الرجل العازف؟

هل جاء المتطوعون بأهاليهم ليمروا على «عزوتي» كشكل من أشكال عزوتهم الموجودة على قارعة الطريق؟

لو افترضنا أن مبادرات مثل هذه انتشرت بقوة في الوطن العربي الكبير«عزوتنا الكبرى»، فهل سنحتاج أن نثرثر حول ان هل كان الإنسان أصله قرد أم سمكة؟ أم أنها ستجعلنا نقفز حول أنه ليس مهماً أن يكون الإنسان أصله قرد أو موزة، بقدر ما أن المهم ألا يعود إلى هذا الأصل.

إن المبادرات الشبابية في الكويت والوطن العربي ليست إجابات جاهزة للنسخ واللصق، ولكنها أسئلة حيث إنه في كثير من الأحيان يكون السؤال أكثر أهمية من الإجابة… وسؤالها الكبير هو ما هو شكل «الممكن» عندهم وعندنا؟

كل عام وأنتم بخير… وتقبل الله طاعتكم.

كاتب كويتي

moh1alatwan@

الرأي الكويتية

اظهر المزيد

اترك تعليقك

زر الذهاب إلى الأعلى