العالم تريند

هكذا قامت مستوطنات “غلاف غزة”.. أخذت قرى القطاع وأحياناً أسماءها

عربي تريند_ تعتبر مدينة غزة في 2023 المكان الأكثر ازدحاماً في العالم، نتيجة تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين عليها خلال وبعد النكبة الفلسطينية، عام 1948، لكنها لم تولد مكتظة كما هي اليوم. كانت هذه جرائم التهجير الصهيونية، والتطهير العرقي عام 1948 هي التي هجرت  سكان مناطق فلسطينية كثيرة، منها قضاء غزة أيضاً، ما أدى إلى تحويله إلى سلسلة من مخيمات البؤس واللجوء، وتقليص مساحته من 1111 كم مربع الى 300 كم فقط.

هذه المدينة الساحلية الساحرة المعروفة بـ “غزة هاشم” نُقل عن الرسول الكريم حديثه بشأنها: “أبشّركم بالعروسين؛ غزة وعسقلان”، تضاعَفَ عدد ساكنيها من 40 الف نسمة، عشية النكبة، إلى نحو نصف مليون نسمة اليوم، باتوا يعيشون في معازل، ويتجرّعون مرارة الحصار والاضطهاد الإسرائيليين، منذ 2006.  الصهيونية التي زرعت أراضي غزة ومحيطها بمستوطنات، عقب احتلالها عام 67، وتم تفكيكها ضمن “فك الارتباط”، عام 2005، سبق وشردت معظم “بناتها”، في نكبة 1948، بتدميرها  46 قرية (من بين 54 قرية مجموع قرى قضاء غزة التاريخي) دون تردد. وكانت هذه القرى منتشرة على بقعة واسعة امتدت شرقاً وشمالاً الى مدينتي الرملة ويافا، وشكّلت مجتمعةً واحداً من أهم أقضية فلسطين التاريخية. قرى دمرت بالكامل حتى أصبحت مجرد أطلال، بيت مهجور هنا، ومسجد، أو كنيسة هناك تعشش فيه الغربان. امتازت بخصوبة أراضيها ووفرة مياهها (وهي: أسد، بربرة، برقة، برير، البطاني الشرقية، البطاني الغربي، بعلين، بيت جرجا، بيت دراس، بيت طيما، بيت عفا، تل لترس، جسير، الجلدية، الجورة، جولس، الجية، حتا، حليقات، حمامة، الخصاص، دمرة، دير سنيد، سمسم، سوافير الشرقية، سوافير الشمالية، سوافير الغربية، صميل، عبدس، عراق السويدان، عراق المنشية، عرب صقرير، الفالوجة، قسطينة، كرثيا، كوفخة، كوكبا، المحرقة، المسمية الكبيرة، نجد، نعليا، هربيا، هوج، ياصور. سدود، مجدل عسقلان وغيرها).

خوف الطغاة من الأغنيات والذكريات

 على أطلال هذه القرى الفلسطينية المهجرة، إضافة لمدينة مجدل عسقلان، بنت السلطات الإسرائيلية عدداً مساوياً تقريباً من المستوطنات، أخذت أراضيها، وأحياناً أسماءها، مثل “كفار عازا”، وبعضها أقيم قبيل النكبة بقليل.

في 30 أبريل/نيسان 1956، وخلال مشاركته في تشييع جثمان جندي إسرائيلي يدعى روعي روتبيرغ قُتل في عملية فدائية في “غلاف غزة”، قال وزير الأمن الإسرائيلي الراحل موشيه ديان، مخاطباً المشيّعين سكان المستوطنات هناك: “عليكم أن تحرثوا الأرض هنا حتى الثلم الأخير، ونحن من طرفنا ندعمكم ونحميكم بقوة الجيش”. وهذا ما حصل طيلة عقود، لكن ذلك انهار، صباح السبت الماضي، بقوة “طوفان الأقصى” حينما نجحت المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة باختراق الحدود، والسيطرة على عشرات مستوطنات “غلاف غزة”، وتدمير ثماني قواعد عسكرية، وتدمير بعض المستوطنات وتحويلها لخرائب، وفق تقارير إسرائيلية ضمن عملية محكمة شملت قوات كوماندوز دخلت من البر والبحر والجو. هذه الضربة الإستراتيجية، التي أوقعت خسائر بشرية ومادية فادحة، علاوة على الهزيمة المعنوية والخسارة في المعركة على الوعي التي أدارتها “حماس” بحنكة وإتقان، وفق اعترافات إسرائيلية أيضاً.

جراح عميقة وخطيرة

 على مستوى الخسائر البشرية، من المرجح أن تبلغ 1000 قتيل، و2500 جريح (للمقارنة؛ قُتل طيلة ثلاث سنوات الانتفاضة الثانية نحو 1000 إسرائيلي، وحماس قتلت مثل هذا الرقم في يوم، ما يعكس حجم الصدمة الإسرائيلية الكبرى)، علاوة على إصابة إسرائيل في هيبتها وصورتها وقوة ردع جيشها، خسارة خطيرة في الوعي وفي فقدان الإسرائيليين ثقتهم بحكومتهم ودولتهم وبأنفسهم، وهناك تساؤلات كثيرة عن مستقبل سكن الإسرائيليين في مستوطنات غلاف غزة الحدودية، بعد اليوم، وتساؤلات إسرائيلية أيضاً عن مستقبل صورة الدولة اليهودية بعيون أعدائها، بعدما تحققت رؤية حسن نصر الله بوصفها، عام 2000، بأنها “أوهى من خيط العنكبوت”.

 وتتواصل، في هذه الساعات أيضاً، شهاداتُ الإسرائيليين الناجين عن الصدمة الكبرى، وعن مشاعر الخوف والإهانة خلال سقوط المستوطنات بيد مجاهدي المقاومة الفلسطينية، ومشاركة مدنيين من قطاع غزة في اختراق الحدود والسيطرة على القواعد والمجمعات السكنية الإسرائيلية، وهم شباب من أبناء الجيلين الثالث والرابع للاجئين الفلسطينيين ممن هُجّروا من بلداتهم في قضاء غزة التاريخي، التي قامت على أنقاضها هذه المستوطنات التي دخلوها في لحظة تاريخية مشحونة بدلالة رمزية هائلة، انتظروها هم وآباؤهم، طيلة عقود، وفيها تفوقَ الواقعُ على الخيال، حيث تتمكّن مقاومةٌ تعدادها مئات العناصر من تحقيق صدع بالوعي الإسرائيلي لم تحققه جيوش عربية، رغم أنهم محاصرون، منذ عقدين، داخل بقعة جغرافية صغيرة تدعى غزة.

اعترافات موشيه ديان

يذكر أن مستوطنة ناحل عوز أقيمت، عام 1948، على أنقاض خربة الوحيدي، القرية الفلسطينية المهجرة في قضاء غزة، وفي 1956 قتل فدائيون جندياً من سكان الكيبوتس يدعى روعي روتبيرغ، وحسب صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية، كان شاباً وسيماً وأباً لطفل (بوعز) في الثالثة والعشرين من عمره. والد روعي مات بعد انكسار قلبه حزناً على مقتل ولده، وماتت زوجته مريضة دون أن تتزوج ثانيةً، أما الابن بوعاز (66) فتركَ إسرائيل، قبل سنوات، ويعترف بأنه هرب لتايلاند بحثاً عن السكينة، وللإفلات من ثمن يسدده دون نهاية. وروى لصحيفة “يديعوت أحرونوت” (27.08.14) أن صدمة مقتل والده لم تفارقه، مبرراً عدم زواجه، ويروي أنه تعبَ من روايته الشخصية، ولم يأخذ معه ما يذكّره به، حتى صورة والده تركها وراءه كي يخلص من الكوابيس.

من تايلاند، تابعَ وقتها حرب “الجرف الصامد” على غزة، وصدمه مقتل الطفل دانئيل، ابن كيبوتس ناحل عوز، بنفس مكان مقتل والده (روعي)، لكنه يتمنى لو أن سكانه هربوا بعد مقتل والده، لأنهم كانوا ربما سينجون من الموت، مؤكداً أن الحرب مع الفلسطينيين لن تنتهي، وأن سكان غزة ليسوا من السويد، وما زال يكن لهم  الكراهية منذ طفولته، وأضاف ساخراً: “سبق وقلت لسكان ناحل عوز، قبل هجرتي لتايلاند: إذا قررتم الهرب يوماً بوسعكم نقل ضريح والدي معكم حيثما شئتم سوية، مع الأسطورة التي نسجتم حوله”.

الصحيفة تورد كلمة الرثاء التي قدّمها قائد جيش الاحتلال الإسرائيلي، وقتها، موشيه ديان، والتي اشتُهرت باعتراف نادر، وهنا ننشرها بعد ترجمتها، لأنها تحتوي على حقيقة غزة التي حوّلتها إسرائيل من مدينة ساحلية جميلة لغيتو فلسطيني، لأكبر مخيم لاجئين مزدحم في العالم، بعد تدمير عشرات القرى الوادعة في المنطقة بين غزة وبين يافا، اللد والرملة عام 1948: “بالأمس  قُتل روعي. سكينة الصباح الربيعي بهرت عينيه فلم يرَ المتربّصون بروحه على حدّ الثلم في الحقل. فلا نكيلن التهم اليوم للقتلة. كيف لنا أن نشكو كراهيتهم الشديدة لنا؟ ثماني سنوات وهم يقيمون داخل مخيمات اللاجئين داخل قطاع غزة، وقبالة عيونهم نُحَوّل أراضيهم وبلداتهم، التي سكنوها وأجدادهم، إلى مزارع لنا. علينا أن نطالب بدم روعي من أنفسنا لا من العرب في غزة. كيف أغمضنا عيوننا، ولم نحدق مباشرة بمصيرنا لنرى وعد زماننا بكل قسوته؟ هل ننسى أن مجموعة الشباب هنا، في كيبوتس ناحل عوز، تحمل على أكتافها بوابات غزة الثقيلة، بوابات تزدحم خلفها مئات آلاف العيون والأيدي المبتهلة من أجل ضعفنا، كي يتمكّنوا من الظفر بنا، ويمزّقونا إرباً إرباً.. هل نسينا؟

روعي الفتى، الذي غادر تل أبيب ليشيد له منزلاً على أبواب غزة ويكون سوراً لنا، خبأ الضوء في فؤاده، عينيه، فلم ير بريق السكّين. الشوق للسلام صمَّ أذنيه، فلم يسمع صوت القتل المترصد له. لم تتسع كتفاه لأبواب غزة الثقيلة فصرعته”.

اظهر المزيد

اترك تعليقك

زر الذهاب إلى الأعلى