الكويت.. تراجع الإنفاق الاستهلاكي 1.68 مليار دينار

بعد أربع سنوات من الارتفاعات المتتالية في الإنفاق، تباطأ نشاط «الاستهلاك» في الكويت خلال الـ9 أشهر الأولى من العام الحالي بشكل لافت، إذ انخفض إنفاق المواطنين والمقيمين، إلى 34.35 مليار دينار (بقيمة 1.68 مليار دينار) مقارنة بـ36.03 مليار دينار في الفترة نفسها من العام الماضي.
الانخفاض شمل أغلب قنوات الدفع، سواء عبر المواقع الإلكترونية أو معاملات السحب الآلي، إذ تراجعت السحوبات النقدية 10.56% لتسجل 6.8 مليارات دينار مقارنة بنحو 7.6 مليارات دينار خلال الفترة المماثلة من 2024، بانخفاض قدره نحو 807 ملايين دينار. كما تراجع الإنفاق عبر المواقع الإلكترونية بنسبة 8% من 14.3 مليار دينار إلى 13.11 مليارا. في حين شكلت أجهزة نقاط البيع الاستثناء الوحيد، مسجلة نمواً بنسبة 3% لتصل إلى 14.39 مليار دينار مقابل 13.98 مليار دينار في 2024، وفقا لبيانات بنك الكويت المركزي.
يشكل التراجع الأخير في الإنفاق الاستهلاكي، إشارة مقلقة لقطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة في الكويت، خاصة أن هذا القطاع ما زال يحاول استعادة توازنه بعد صدمة جائحة كورونا، فهذه المشروعات، التي تعتمد بدرجة كبيرة على دورة الاستهلاك المحلية، كانت الأكثر تضرراً من فترات الإغلاق والقيود الصحية، ثم من ارتفاع التكاليف التشغيلية لاحقاً مع موجة التضخم وسلاسل الإمداد المضطربة.
وتتأثر المشروعات الصغيرة بشكل مباشر بكل تغير في المزاج الاستهلاكي، إذ تعتمد على المبيعات اليومية وتدفقات النقد السريعة، بخلاف الشركات الكبرى التي تمتلك احتياطيات أو مصادر تمويل مستقرة. ومع انخفاض الطلب في السوق المحلي، تصبح هذه المشاريع الحلقة الأضعف في الدورة الاقتصادية، حيث تتراجع المبيعات، بينما تظل الالتزامات التشغيلية ثابتة أو مرتفعة.
ويمكن قراءة هذا التراجع في ضوء مرحلتين متعاكستين، مرحلة التوسع الاستهلاكي التي تلت جائحة «كورونا» منذ عام 2021، مدفوعة بالطلب المؤجل وارتفاع الدخول والسيولة، ثم مرحلة التصحيح الحالية التي تعكس ميلاً أوسع نحو الحذر في الإنفاق، تحت تأثير تشديد السياسات النقدية وتباطؤ النمو العالمي وتغير أولويات الأسر بين الاستهلاك والادخار.
واستمرار تراجع الإنفاق الاستهلاكي قد يعني دخول الاقتصاد مرحلة «التباطؤ الاستهلاكي» التي تتطلب تدخلاً مدروساً من صناع القرار، عبر تحفيز الطلب المحلي، وتسهيل الوصول إلى التمويل، وتفعيل برامج الدعم الموجه للمشروعات الصغيرة والمتوسطة. فنجاح هذه المشاريع لا يُقاس فقط بقدرتها على البقاء، بل بقدرتها على خلق بيئة إنتاجية محلية تعزز التنوع الاقتصادي وتقلل من الاعتماد على الإنفاق الحكومي محركاً وحيداً للنمو، ومع كل تراجع في الإنفاق، يخسر هذا القطاع فرصته في التحول من «هشاشة البقاء» إلى «قوة التأثير» داخل الاقتصاد الكويتي.
وفيما يلي التفاصيل:
سجل الانفاق الاستهلاكي هذا العام إشارة تباطؤ لافتة، إذ انخفض إنفاق المواطنين والمقيمين بنسبة 4.66% خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري، ليبلغ 34.35 مليار دينار مقارنة بـ36.03 مليار دينار في الفترة نفسها من العام الماضي.وفقا لبيانات بنك الكويت المركزي.الانخفاض شمل أغلب قنوات الدفع، سواء عبر المواقع الإلكترونية أو معاملات السحب الآلي. اذ انخفضت السحوبات النقدية 10.56% لتسجل 6.8 مليارات دينار مقارنة بنحو 7.6 مليارات دينار خلال الفترة المماثلة من 2024 بتراجع قدره نحو 807 ملايين دينار.في حين شكلت أجهزة نقاط البيع الاستثناء الوحيد، مسجلة نمواً بنسبة 3% لتصل إلى 14.39 مليار دينار مقابل 13.98 مليار دينار في 2024.
كما تراجع الإنفاق عبر المواقع الإلكترونية من بنسبة 8% من 14.3 مليار دينار إلى 13.11 مليار.
يمكن قراءة هذا التراجع في ضوء مرحلتين متعاكستين، مرحلة التوسع الاستهلاكي التي تلت جائحة «كورونا» منذ عام 2021، مدفوعة بالطلب المؤجل وارتفاع الدخول والسيولة، ثم مرحلة التصحيح الحالية التي تعكس ميلاً أوسع نحو الحذر في الإنفاق، تحت تأثير تشديد السياسات النقدية وتباطؤ النمو العالمي وتغير أولويات الأسر بين الاستهلاك والادخار.
في السنوات الماضية، كشف مسار الإنفاق تحولاً تدريجياً في بنية السلوك المالي داخل المجتمع الكويتي، ففي عام 2019، كان الكاش هو سيد الموقف، مستحوذاً على نحو 49.3 % من إجمالي الإنفاق البالغ آنذاك 18.88 مليار دينار، بقيمة 9.32 مليارات دينار، تلاه الدفع عبر أجهزة نقاط البيع بـ8.16 مليارات دينار، بينما كان الدفع الإلكتروني عبر المواقع محدوداً لا يتجاوز 1.39 مليار دينار فقط.
اليوم، المشهد انعكس تماماً، الكاش يتراجع، والمعاملات الرقمية تتوسع، لكن حجم الإنفاق الكلي بدأ يدخل دورة جديدة من التوازن بعد سنوات من الاندفاع الاستهلاكي. هذا الانحسار الطفيف لا يعكس بالضرورة ضعفاً في النشاط الاقتصادي، بقدر ما يشير إلى نضج في السلوك المالي وتحول نحو إنفاق أكثر انتقائية وعقلانية، حيث لم يعد الاستهلاك مؤشراً على الرفاه فقط، بل جزءاً من معادلة الاستدامة الاقتصادية التي بدأت تتشكل في الكويت تدريجياً.
إشارات مقلقة
يشكل التراجع الأخير في الإنفاق الاستهلاكي، رغم محدوديته رقمياً، إشارة مقلقة لقطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة في الكويت، ذلك القطاع الذي ما زال يحاول استعادة توازنه بعد صدمة جائحة كورونا، فهذه المشروعات، التي تعتمد بدرجة كبيرة على دورة الاستهلاك المحلية، كانت الأكثر تضرراً من فترات الإغلاق والقيود الصحية، ثم من ارتفاع التكاليف التشغيلية لاحقاً مع موجة التضخم وسلاسل الإمداد المضطربة.
منذ عام 2021، سعت آلاف المشاريع الصغيرة للعودة إلى السوق بثقة، مستفيدة من الانتعاش في الإنفاق الرقمي وزيادة الإقبال على الخدمات الإلكترونية والتطبيقات المحلية، خصوصاً في مجالات المطاعم والتجزئة والخدمات اللوجستية، غير أن التراجع الأخير في الإنفاق بنسبة 4.34% خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري جاء ليعيد التحدي من جديد، ويقلص من هوامش الربحية ويؤجل خطط التوسع لدى كثير من رواد الأعمال.
تتأثر المشروعات الصغيرة بشكل مباشر بكل تغير في المزاج الاستهلاكي، إذ تعتمد على المبيعات اليومية وتدفقات النقد السريعة، بخلاف الشركات الكبرى التي تمتلك احتياطات أو مصادر تمويل مستقرة. ومع انخفاض الطلب في السوق المحلي، تصبح هذه المشاريع الحلقة الأضعف في الدورة الاقتصادية، حيث تتراجع المبيعات بينما تظل الالتزامات التشغيلية ثابتة أو مرتفعة.
تحفيز الطلب المحلي
إن استمرار هذا الاتجاه قد يعني دخول الاقتصاد في مرحلة «التباطؤ الاستهلاكي» التي تتطلب تدخلاً مدروساً من صناع القرار، عبر تحفيز الطلب المحلي، وتسهيل الوصول إلى التمويل، وتفعيل برامج الدعم الموجه للمشروعات الصغيرة والمتوسطة. فنجاح هذه المشاريع لا يُقاس فقط بقدرتها على البقاء، بل بقدرتها على خلق بيئة إنتاجية محلية تعزز التنوع الاقتصادي وتقلل من الاعتماد على الإنفاق الحكومي محركاً وحيداً للنمو، ومع كل تراجع في الإنفاق، يخسر هذا القطاع فرصته في التحول من «هشاشة البقاء» إلى «قوة التأثير» داخل الاقتصاد الكويتي.
تحوُّل في فلسفة الإنفاق
في زمنٍ ليس ببعيد، كانت «الثقة» تُقاس بما تلمسه اليد، أي أن النقود الورقية كانت رمز الأمان وملاذ الوعي الجمعي من الشك في الأنظمة الرقمية، لكن في غضون ست سنوات فقط، تبدلت هذه المعادلة جذرياً، إذ تراجع الكاش من واجهة التعاملات إلى هامشها، بينما صعدت المدفوعات الإلكترونية لتصبح القناة المفضلة للإنفاق والاستهلاك.
الأرقام لا تتحدث فحسب، بل تفصح عن تحول ثقافي واقتصادي عميق، فمنذ عام 2019 وحتى اليوم، قفزت المدفوعات عبر المواقع الإلكترونية بنسبة 838.2% لتبلغ 13.1 مليار دينار خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري، بعد أن كانت لا تتجاوز 1.3 مليار دينار قبل ست سنوات. في المقابل، انكمشت التعاملات النقدية بنسبة 26.7%، أي من 9.34 مليارات في 2019 إلى 6.83 مليارات دينار هذا العام.
اقتصادياً، يعكس هذا التحول انتقال الثقة من «الورق» إلى «الرمز»، من المال الملموس إلى المال المبرمج، ما يحدث هو انتقال في تصور الإنسان للقيمة نفسها، من الشيء الذي يُحتفظ به في الجيب إلى الفكرة التي تُدار عبر خوادم وشبكات، المال لم يعد سلعة تُتداول فحسب، بل أصبح «بيانات» تتنقل في فضاءٍ بلا حدود.
التكنولوجيا.. والسلوك المالي
إن صعود المدفوعات الإلكترونية لا يعني مجرد راحة تقنية، بل إعادة تعريف لمفهوم السيولة والدورة الاقتصادية، فكل نقرة على موقع للتسوق، وكل عملية دفع عبر الهاتف، هي تصويت ضمني على مستقبل تتداخل فيه التكنولوجيا مع السلوك المالي، وتتشكل فيه الثقة لا من الأوراق الممهورة، بل من الشيفرات والأنظمة المؤمنة. وهنا، تتجلى الحقيقة الجديدة، الكاش لم يختف تماماً، لكنه فقد سلطته الرمزية، في عالم أصبح فيه «الرقم» أكثر حضوراً من «النقود»، و«البيانات» أكثر واقعية من الورق.