الحكم الذاتي أو الفوضى: كيف تساهم الفيدرالية في استقرار سوريا بعد الحرب؟

في قلب الصراع السوري الذي طال أكثر من عقد من الزمن، يظهر سؤالٌ محوري: هل يمكن لسوريا أن تنجو من التمزق والدمار المستمر من خلال تبني نظام فيدرالي؟ اليوم، ومع تزايد الانقسامات العميقة بين مختلف القوى المحلية والميليشيات الطائفية، يبدو أن الفيدرالية قد تكون الخيار الوحيد للحفاظ على استقرار البلاد، خاصة في ظل تزايد الدعوات من مختلف المناطق السورية، مثل السويداء والجزيرة الكردية، للحصول على حكم ذاتي.
تفكك الدولة المركزية:
منذ أن استلمت الثورة الحكم في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، كشفت الأحداث عن دولةٍ متصدعة تتحكم فيها الميليشيات، التي لا تخضع لسلطة الحكومة المركزية في دمشق. والمناطق، التي كانت تحت سيطرة النظام سابقًا، أصبحت اليوم ساحة صراع بين قوى محلية وجيش عماده ميليشيات مسلحة سابقة، منها ما هو طائفي أو تخريبي يعمل لتحقيق مصالح شخصية باسم الدولة. أحدث هذه الأحداث كان في السويداء، حيث أسفرت المعارك الأخيرة عن مقتل أكثر من 400 شخص، مما يسلط الضوء على فشل النظام في الحفاظ على وحدة البلاد والسيطرة على مقاتليه ونواياهم العدائية تجاه الأقليات.
وبحسب المراقبين فالدولة السورية، التي أُعيد تشكيلها ظاهريًا بعد سنوات من الحرب، ليست فقط غير فعّالة، بل خطيرة أيضًا. حيث يُمثل الجهاز العسكري الجديد، الذي أُعيد بناؤه حول ميليشيات غير منضبطة، يحرك الكثير منها الانتقام الطائفي بدلًا من المصالحة الوطنية، تهديدًا واضحًا للمشهد العرقي والديني في سوريا، وهذه المجموعات، التي اكتسبت قوتها من خلال أدوارها في الجيش، لا تحركها رؤية الوحدة الوطنية، بل ازدراء الأقليات، بما في ذلك الدروز والأكراد والعلويين والمسيحيين.
ما ينجم عن هذه الفوضى ليس حكومة مركزية فاعلة، بل خليط من المناطق العسكرية، كل منها موالٍ لفصيل أو قائد أو راعٍ أجنبي. وفي هذا السياق، لم تعد الفيدرالية تبدو نموذجًا نظريًا، بل أصبحت حلًا ضروريًا لمنع انزلاق سوريا إلى حقبة جديدة من سفك الدماء.
الفيدرالية كحل ضروري:
تقدم الفيدرالية مخرجًا محتملًا في ظل هذا الوضع. وفقًا لتحليل سياسي دقيق، يرى العديد من الخبراء أن النظام الفيدرالي في سوريا من شأنه أن يعيد التوازن بين القوى المتنافسة ويؤمن حماية للمكونات العرقية والدينية المتنوعة التي كانت ضحية للصراع المستمر.
الدكتور “سمير العلي”، خبير في الشؤون السياسية في منطقة الشرق الأوسط، يرى أن الفيدرالية هي الطريق الوحيد لضمان حقوق الأقليات والحفاظ على تماسك المجتمع السوري، قائلاً: “سوريا لا يمكنها العودة إلى الماضي. الدولة المركزية قد انهارت بالفعل، والمناطق التي طالما كانت تحت حكم دمشق باتت خاضعة لسلطة القوى المحلية التي تخشى من سطوة الأكثرية. الفيدرالية ليست مجرد فكرة نظرية، بل هي ضرورة من أجل الحفاظ على الاستقرار.”
ويضيف العلي أن “المناطق مثل السويداء والشمال الشرقي (الأكراد) وحتى الساحل السوري، بحاجة إلى نموذج إدارة ذاتي، بعيدًا عن سيطرة حكومة دمشق أو الجماعات المسلحة التي تستغل الوضع الطائفي لتحقيق مصالح ضيقة”.
مؤكدّا أنه “بالرغم من التحديات والصعوبات، فإن الفيدرالية قد تكون مفتاحًا لإعادة بناء سوريا على أسس من العدالة والتوازن بين مكوناتها المتنوعة. قد تكون هذه الخطوة هي السبيل الوحيد لتجنب انزلاق البلاد إلى مرحلة من الفوضى المستمرة”.
النموذج الكردي:
النموذج الفيدرالي الأكثر نجاحًا في سوريا حتى الآن هو النموذج الذي تطبقه الإدارة الذاتية الكردية في شمال شرق البلاد. ففي هذه المناطق، لم تُقيد الهويات العرقية أو الطائفية ضمن حدود النظام المركزي. بدلاً من ذلك، تم إنشاء نظام سياسي يقوم على مبدأ “اللامركزية” مع مشاركة فعالة لجميع المكونات في عملية الحكم، بما في ذلك الأكراد والعرب والسريان وغيرهم.
كما تبقى قوات سوريا الديمقراطية (قسد) القوة الأكثر فعالية في مواجهة عودة ظهور الإرهاب. وأي دمج قسري لها في الميليشيات الخاضعة لسيطرة دمشق من شأنه أن يُعرّض ذلك للخطر، ويُقوّض سنوات من الجهود الدولية والمحلية لمكافحة الإرهاب. وعلاوة على ذلك، فإن التنازل عن الحكم الذاتي الكردي لنظام يضم بشكل متزايد ميليشيات معادية للأقليات من شأنه أن يرسل إشارة خطيرة ليس فقط إلى الأكراد في سوريا، بل إلى كل مجتمع تجرأ على تصور مستقبل مختلف بعد عام 2011.
التوازن الاجتماعي والسياسي:
ومن خلال منح المناطق المختلفة مستوى من الاستقلالية في إدارة شؤونها المحلية، يمكن للشرائح الاجتماعية المختلفة في سوريا أن تجد طرقًا للتعامل مع التوترات الداخلية، التي غالبًا ما استُغلت من قبل أطراف خارجية لدعم أجندات معينة.
أيضًا، يعتقد الخبراء أن الفيدرالية قد تكون وسيلة فعالة لمحاربة التطرف والإرهاب. فعندما يتم منح المجتمعات المحلية قدرًا من الاستقلالية وتصبح أكثر قدرة على الدفاع عن مصالحها وحمايتها، فإن ذلك يقلل من قدرة الجماعات المتطرفة على استغلال الفراغ الأمني أو غياب السلطة المركزية. ويرى البعض أن إدماج القوى المحلية في النظام الفيدرالي يمكن أن يحد من التشدد ويخلق بيئة سياسية تكون أقل عرضة للنفوذ الخارجي.
أين تقف القوى الدولية؟
ولكن تبدو القوى الدولية المعنية بالصراع السوري، غير مستعدة لدعم فكرة الفيدرالية، خصوصًا إذا كان ذلك يساعد على إيجاد حل سياسي مستدام للأزمة. لما تشكله الفيدرالية من خطر على مصالحها، فواشنطن وتل أبيب على سبيل المثال تحاولان اخضاع جميع المكونات السورية بما يضمن مصالحها وأجنداتها، أو الإبقاء على حالة عدم الاستقرار والاقتتال إلى ما لا نهاية، لأنها لا تريد تسليم النفوذ في سوريا إلى تركيا، التي بدورها أيضًا تعارض فكرة الفيدرالية كونها تعتبر أنها انتصرت استراتيجيًا في سوريا (بكاملها) مع وصول هيئة تحرير الشام (سابقًا) الموالية لها إلى سدة الحكم.