عملية النصيرات الدموية.. نجاح محدود لإسرائيل لا يحرّرها من أزماتها.. ونشوتها مرآة لإحباطها وتعطّشها لأي مكسب
عربي تريند_عكست موجة الفرح والابتهاج التي سادت إسرائيل إلى حد الانتشاء وربما الهستيريا، رد فعل طبيعيا على استعادة أسرى بعد تسعة شهور من الأسر، لكنها عكست ما هو أعمق ويرتبط بالمزاج السلبي العام في ظل حرب فاشلة رغم توحشها.
داخل مخيّم النصيرات، ارتكبت قوات الاحتلال مذبحة مروعة شملت مئات الشهداء والجرحى والدمار الشامل، نجحت خلالها في تخليص أربعة محتجزين. وهي عملية وليدة عدة عوامل: معلومات استخباراتية دقيقة تدلل على وقوع اختراق أمني في الجانب الفلسطيني سيدفع حماس لمراجعة أوراقها. ومساعدة أمريكية وربما غربية لإسرائيل، وتخطيط وتضليل عملياتي يشمل دخول قوة مستعربة داخل “شاحنة مساعدات إنسانية” وتخليص القوات المستعربة بعدما تورّطت نتيجة نيران المقاومة.
يضاف إلى ذلك عمل الحظ، فالعملية كادت تفشل ويكون ثمنها باهظا لولا تدمير كل البيئة المحيطة بنيران إسرائيلية من البر والبحر والجو.
بين النجاح والفشل في مثل هذه العملية شعرة، وفي الماضي فشلت محاولات إسرائيلية سابقة، وكشفت القناة العبرية 12، أن مروحية عسكرية قتلت مقاتلا فلسطينيا في اللحظة الأخيرة قبل أن يطلق صاروخ “أر بي جي” على الشاحنة التي كانت تقل الجنود مع المخطوفين فور تخليصهم.
في كل الأحوال، هذه ليست عملية عنتيبي في أوغندا عام 1976، يوم أرسلت إسرائيل قوة كوماندوز إلى المطار الأوغندي لتحرير رهائن في طائرة اختطفها فلسطينيون ورفقاء لهم كانت متجهة من تل أبيب إلى باريس. وانتهت العملية بمقتل الخاطفين وثلاثة رهائن إلى جانب جنود أوغنديين، وقائد القوات الخاصة الإسرائيلية الضابط جوناثان، شقيق رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو.
بخلاف أوغندا هذه المرة، كانت عملية تخليص المحتجزين نتيجة ارتكاب مذبحة مهولة بحق المدنيين الفلسطينيين داخل مخيّم مكتظ، وقريبا من سوق مزدحم في ساعة الذروة، مما أدى إلى بحر من دماء النساء والأطفال.
كيّ وعي الإسرائيليين والفلسطينيين
فور الكشف الأولي عن عملية إسرائيلية، شاركت الصحافة العبرية والقيادات السياسية في تضخيم العملية، واعتبارها “بطولة ما بعدها بطولة”، رغم استشهاد مئات المدنيين الفلسطينيين، ومقتل ضابط في الوحدة الإسرائيلية الخاصة، ورغم كونها نجاحا تكتيكيا موضعيا محدودا وليس حدثا استراتيجيا يغّير صورة الحرب ويعفي إسرائيل من المشاكل والتحدّيات الكبرى الحقيقية التي بقيت عالقة فيها. وسرعان ما انعكس ذلك في تغطيات تلفزيونية مفتوحة على مدار ساعات، و”رقص في الشوارع” داخل بعض المدن الإسرائيلية.
حاولت هذه الجهات كيّ وعي الإسرائيليين ومحاولة إقناعهم وتعزيز ثقتهم بالجيش والدولة، بموازاة محاولة المساس بمعنويات الجانب الفلسطيني، ودفعه للاعتقاد بمقولة “الجيش القوي والأخلاقي”.
بالأمس، تكوّنت الرواية الإسرائيلية من مكونين: موجود ومفقود. حضرت البطولة ومعها مزاعم “الضغط العسكري كطريق ناجع”، وغابت المذبحة.
وشاركت المؤسسة الحاكمة لغايات معروفة في تضخيم نجاح العملية والنفخ به للتغطية على إخفاقاتها، وتحسين صورتها المتشظية في عيون الإسرائيليين. فسارع نتنياهو لالتقاط الصور مع المحتجزين المحررين. فيما تباهى وزراؤه بهذا “النجاح الباهر”، مما دفع رئيس المعارضة يائير لبيد للقول إن العملية “نقطة ضوء في ظلمة كبيرة”، وهي فعلا نقطة نجاح في بحر إخفاقات دخلت شهرها التاسع أمس.
حالة الفرح الهستيري غمرت الإسرائيليين؛ لأنها تأتي في حضيض معنوي غير مسبوق يسود في الأيام الأخيرة بعد فشل حرب متوحشة، باتت حرب استنزاف، في تحقيق أهدافها رغم تسعة شهور من التدمير والقتل والتهجير. وفي ظل “مشاهد يوم القيامة” في الجليل الأعلى، حيث ارتفعت ألسن لهب النار لعشرات الأمتار، والتهمت الغابات وحرقت أطراق المستوطنات نتيجة تبادل النار مع حزب الله، وفي ضوء اللطمات الدبلوماسية التي تلقتها إسرائيل، وآخرها إدخالها من قبل الأمم المتحدة في قائمة العار ضمن “النادي الفاخر” سوية مع “بوكو حرام” و”داعش” بعد اتهامها بقتل الأطفال.
حالة الإحباط
اليوم الأحد، وبعدما هبط الغبار ونزلت أقدام الإسرائيليين إلى الأرض بعد حالة النشوة، ينبّه عدد كبير من المراقبين الإسرائيليين من أن العملية الناجحة تبقى محدودة، ولا تغير الصورة الاستراتيجية.
وفي مقاله المنشور بصحيفة “هآرتس” يوضح يوسي فرطر، المحلل السياسي، من أن “نتنياهو سارع لالتقاط صور مع المحتجزين، لكن التحرير الناجح لم يخرج إسرائيل من الوحل”. ويشير إلى أن نتنياهو “مقاول إنجازات على شاكلة عنتيبي فقط، حيث سارع إلى مستشفى تل هاشومير لمقابلة المخطوفين المحررين، فيما يواصل تجاهل مخطوفين تم تحريرهم في صفقة نوفمبر، وتجاهل عائلات القتلى”.
ويتساءل فرطر: “هل كان سيقف نتنياهو مقابل الكاميرات في حال فشلت العملية؟”. ويقّر فرطر أيضا بأن موجة الفرح العارم في الشوارع والمقاهي وحتى في أثينا، حيث تتدفق مجموعات من الإسرائيليين للمشاركة في احتفالية لمغنٍ عالمي، تجسّد حالة الضيق والإحباط التي يعيشها الإسرائيليون اليوم.
كيف ستؤّثر العملية على احتمالات الصفقة؟
يتفق معه زميله المحلل العسكري عاموس هارئيل، بالتأكيد على أن العملية دليل على شجاعة الجنود، لكنها عمليا لم تحرّر إسرائيل من همومها الملحّة.
ويضيف: “بعد هذه العملية أيضا، إسرائيل ليست قريبة من النصر المطلق. استعادة عدد كبير من المخطوفين تتم فقط ضمن صفقة تتطلب تنازلات ثقيلة”.
ويتبنى المحلل العسكري في صحيفة “يسرائيل هيوم” يوآف ليمور هذه الرؤية، بالقول في مقال بعنوان “مع الأقدام على الأرض: العملية مثالية لكن معضلات إسرائيل زادت حدة” إنها عملية ناجحة من ناحية جمع المعلومات الاستخباراتية، عملية صرف الأنظار والتمويه والعمل بالتزامن لتخليص رهائن في شقتين منفصلتين.
ويخلص ليمور للقول إن التحدي كان كبيرا، والمشكلة أن أن احتمالات استعادة المخطوفين أحياء ضمن اتفاق أكبر بكثير من احتمالات استعادتهم بعملية عسكرية ولا يمكن تجاهل ذلك.
وتبعه المعلق السياسي في القناة 12 العبرية، بن كاسبيت، الذي يحمل اليوم مجددا على نتنياهو وحكومته في مقال بصحيفة “معاريف”، فيتحدث عن “الاستراتيجية الفاشلة: نتنياهو يحتفل بمنجز موضعي ويتجاهل البقية”.
ويضيف بن كاسبيت: “ما تعلمناه أمس عرفناه من قبل: إسرائيل ممتازة بالعمليات البطولية للمدى القصير، لكنها أقل نجاحا في إدارة منظومات استراتيجية للمدى البعيد والسبب بسيط”.
على خلفية كل ذلك، أرجأ رئيس الحزب الدولاني بيني غانتس، المؤتمر الصحافي الذي كان مقررا ليلة أمس بغية إعلان مغادرته حكومة نتنياهو.
ويبدو أنه علم بالعملية في النصيرات بطبيعة الحال مسبقا، ومع ذلك لم يبادر لإلغائه قبل أيام كي لا يلفت نظر المقاومة الفلسطينية لاحتمال وجود عملية قيد التخطيط، وتوشك على الخروج إلى حيز التنفيذ.
غانتس قرر وبدوافع لا تخلو من الحسابات الحزبية الشخصية، الامتناع عن إعلان مغادرته الائتلاف كي لا يتهم بإفساد الاحتفالية الإسرائيلية، ويزرع الفرقة في لحظة وحدوية. لكنه يتجه لتفكيك الشراكة هذه رغم دعوة نتنياهو له بالبقاء. وهنا إسرائيل حائرة ولا تجد جوابا قاطعا للسؤال: “هل تقرّب هذه العملية الصفقة أم تبعدها؟” وفق ما تكشف عنه وسائل إعلام عبرية.