153 جنديا قتيلا وأكثر من 5000 جريح.. توالي أيام الحرب المكلفة يحوّل الرواية الإسرائيلية عن انتصاراتها لرسم كاريكاتير
في اليوم التاسع والسبعين للحرب على غزة، يعلن جيش الاحتلال عن مقتل ثمانية من جنوده إضافة إلى خمسة جنود قُتلوا أمس داخل قطاع غزة، وجندي على الحدود مع لبنان، دون تقدم نحو تحقيق أهداف الحرب المعلنة العالية، مثلما لا يوجد تقدم نحو صفقة تبادل جديدة، فيما تتعالى الأصوات الإسرائيلية الداعية لصفقة كبرى، محذّرة من “التورّط في وحل غزة” ومن استنساخ تجربة احتلال الجنوب اللبناني.
وتتزايد الشكوك حول جدوى وكلفة الحرب في ظل الكشف عن سوء تقديرات إسرائيل لقدرات المقاومة الفلسطينية من ناحية كمية السلاح ومدى حجم وتطور مدينة الأنفاق، ومن الجاهزية العالية للمقاومين وإدارتهم قتالا جيدا، واستعدادهم للمواجهة دون تردّد، كما قال المستشار الأمني السابق الجنرال في الاحتياط غيورا آيلاند في تصريحات للقناة 13 العبرية ليلة البارحة.
وبعد نشره مقالا في صحيفة “هآرتس” نهاية الأسبوع الماضي، عاد رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إيهود أولمرت، للدعوة إلى وقف الحرب وإتمام صفقة كبرى. وفي حديث للقناة 12 العبرية، قال أولمرت أمس، إنه من غير الممكن تحقيق أهداف الحرب، وإنه لن تكون هناك صورة انتصار، مطالبا بالعمل الجاد لاستعادة المحتجزين داخل قطاع غزة فورا.
وهذا ما قاله قبل أيام زميله رئيس الحكومة الإسرائيلية سابقا إيهود باراك، الذي اتهم نتنياهو بخلط الحسابات واعتماد اعتبارات غريبة في إدارة الحرب ترتبط ببقائه في الحكم بكل ثمن، داعيا هو الآخر كما أولمرت لإسقاط نتنياهو وحكومته الآن؛ لأنها فاشلة وتشكل تهديدا على الإسرائيليين.
من جهته اكتفى زميلهما رئيس الحكومة السابق، ورئيس المعارضة الحالي، يائير لبيد، بالدعوة إلى وقف الحرب بالتلميح الدقيق. وفي حديث للإذاعة العبرية العامة صباح اليوم الأحد، قال لبيد إن هناك هدفين مهمين للحرب واحد منهما أكثر إلحاحا الآن: استعادة المحتجزين من خلال زيادة الضغط على قطر كونها “راعية حماس” بحسب قوله.
لبيد الذي رفض الإجابة على سؤال الإذاعة هل نوقف الحرب، قال إننا “للأسف نقف ليس بين خيار جيد وخيار سيئ، بل بين خيارات سيئة، واستعادة المحتجزين ثمنها باهظ وصعب، ولكن هذا هو الواقع، ونحن كمعارضة مستعدون لدعم أي قرار حكومي بهذا الاتجاه. لن نتراجع عن الهدفين، ولذا نحن نقاتل وندفع ثمنا غاليا، وفي الماضي، حصل أن عدنا للقتال بعدما أوقفناه رغم التحذيرات بعدم القدرة على ذلك. صحيح أن ننتقل لمرحلة جديدة من الحرب”.
لبيد يهدّد باغتيال القيادة السداسية لحماس
في محاولة للتغطية على دعوته لوقف الحرب دون تحقيق أهدافها مع كل ما يترتب على ذلك من ناحية وعي الإسرائيليين ووعي أعدائهم، قال لبيد أيضا: “هناك ستة من قيادة حماس سيموتون: ثلاثة في غزة وثلاثة في الخارج، وهم يحيى السنوار، محمد الضيف، مروان عيسى، إسماعيل هنية، خالد مشعل، وصالح العاروري”.
وتقترب الحرب من يومها الثمانين، وهي الحرب الأطول منذ 1948 والأخطر لإسرائيل والأكثر بشاعة من ناحية تورّطها بجرائم تدمير شامل، وقتل وإصابة عدد مهول من المدنيين الفلسطنيين (قتل1% من الغزيين، وإصابة 5% منهم) وهذه أعداد غير مسبوقة في تاريخ البشرية، خاصة وأن الحديث يدور عن منطقة محاصرة (2% فقط من مساحة فلسطين) في مقابل فصائل معظم سلاحها مصنع محليا.
وأمام هذه الإحداثيات والتهديدات بالمزيد من القتل والتخريب والتصريحات المتكررّة حول الانتصارات يوميا على لسان المسؤولين الإسرائيليين السياسين والعسكريين، تأتي الأنباء من الميدان معاكسة، خاصة فيما يتعلق باستمرار القتال في مناطق أعلنت إسرائيل عن سيطرتها عليها كما في شمال القطاع، وبما يتعلق بالأعداد الكبيرة للقتلى والجرحى المعلن عنهم (152 جنديا قتيلا، وأكثر من خمسة آلاف جندي جريح، 3000 منهم يعرفّون كجنود معاقين رسميا).
هذه الهوة الواسعة بل المتسّعة مع الأيام بين المزاعم الإسرائيلية الرسمية عن نجاحات الجيش الغازي، وبين الوقائع على الأرض، تفاقم شكوك الإسرائيليين باحتمالات وجدوى هذه الحرب المتوحشة التي تقتل المدنيين الفلسطينيين بشكل جماعي دون تحقيق أهدافها المعلنة، وهذا دفع صحيفة “هآرتس” العبرية اليوم لتكريس افتتاحيتها للموضوع تحت عنوان: “كفى للقتل الجماعي في قطاع غزة”.
الجيش يصد معظم هجمات حماس لكن قليلها يجبي ثمنا غاليا
تزامنا مع اعتراف إسرائيل بعدد كبير من الجنود القتلى والجرحى في معارك داخل القطاع يوم أمس، يحذر عدد من المراقبين الإسرائيليين من التورط في حرب طويلة ومكلفة. وبعضهم واظب منذ أسابيع كثيرة على القول إنها حرب دامية صعبة لا يمكن تحقيق أهدافها المعلنة، وإنّ صورة الانتصار ستبقى مفقودة.
وينبّه المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس” عاموس هارئيل لمفاعيل الثمن الغالي للحرب، ويقول إن الجنود يقاتلون منذ 7 أكتوبر بعزيمة قوية لأنها حرب حتمية وما زالت محقّة ومبرّرة، وفق زعمه. ولكن مع المدى الطويل سيستصعب الجمهور الإسرائيلي تجاهل ثمنها الباهظ، وكذلك تجاهل الشك بإمكانية تحقيق أهدافها العالية التي ما زالت بعيدة.
حرب استنزاف
ويتوافق معه المراسل العسكري في صحيفة “يديعوت أحرونوت” يوآف زيتون، وهو من الصحافيين الإسرائيليين القلائل الذي يواصل البحث عن الحقيقة بعيدا عن جوقة الـ”التطبيل والتزمير” تساوقا مع رواية الناطق العسكري، فيقول اليوم الأحد، إن جيش الاحتلال لا يسارع إلى إنهاء القتال ويواصل نشاطه وسط تعلم ميداني.
ويضيف محذّرا هو الآخر: “في المقابل، يسدد الجيش أثمانا باهظة بسبب عناد حماس التي تتعلم من تجاربها: تتبادل المعلومات بقصاصات ورق (ليس بالاتصالات الإلكترونية) وتستخدم القناصة ومصائد موت سرية وبقية وسائل القتال في حرب العصابات.
ويخلص زيتون للقول إنه مع تحول عمر الحرب من أسابيع إلى شهور دون حل سياسي، هناك أوساط في الجيش تذكّره هذه الحالة بالحزام الأمني في جنوب لبنان، قاصدا بذلك التورّط لسنوات في وحل لبنان المكلف. ويتفق معه زميله في الصحيفة يوسي يهوشع، الذي يؤكد أن ما يجري داخل القطاع معركة قاسية عنيدة ومكلفة، والجيش يقول إنها تحتاج زمنا طويلا حتى تتحقق الأهداف، والثمن غال بيد أنه سيحقق المراد في نهاية المطاف.
الضغوط الداخلية أشد فاعلية من الخارجية
حاليا، يستمد نتنياهو التشجيع على مواصلة الحرب من الضوء الأخضر الصادر من الإدارة الأمريكية. فبعد المكالمة الهاتفية السابعة عشرة بينهما أمس، قال بايدن إنه لم يطلب من نتنياهو التوقف عن الحرب.
ورغم المذابح بحق المدنيين الفلسطينيين والاحتجاجات والأضرار الداخلية في الولايات المتحدة، يواصل بايدن منح إسرائيل دعما مطلقا لهذه الحرب المتوحشة التي بات واضحا أنها أمريكية مثلما هي إسرائيلية، والإدارة الأمريكية هي الأخرى تبحث عن نتيجة تحفظ ماء وجهها ومصالحها ومآربها في الخارج والداخل.
هذا الفشل في كسر حماس، يفسّر هذا القصف العشوائي الدموي الذي يأتي للضغط على الحركة بعدما كان قد بدأ من أجل الانتقام، واحتلال وعي الفلسطينيين بنكبة جديدة، لاستعادة الهيبة والثقة وقوة الردع التي تضرّرت كثيرا في السابع من أكتوبر.
لن تتوقف هذه الحرب على غزة بضغط الاحتجاجات في العالم الغربي، والضغط أمريكي رغم التسريبات والتصريحات الكاذبة الصادرة عن الإدارة الأمريكية حول ضرورة الانتقال للمرحلة القادمة والكف عن المساس بالمدنيين، بقدر ما ستتأثر بالضغوط الداخلية الإسرائيلية المرشحة للتصاعد نتيجة صمود المقاومة وتكبيد الجيش الإسرائيلي أثمانا باهظة ليس سهلا تحملّها في حرب تبدو بلا أفق، علاوة على ضغط عائلات المحتجزين وانزياح أوساط واسعة من الشارع الإسرائيلي من أجل استعادة المحتجزين أحياء فورا.