ما هي المرامي الخبيثة والمفضوحة لمقولة نتنياهو: “نحن في حرب الاستقلال الثانية”؟
“هذه هي حرب الاستقلال الثانية، وفيها سنبيد العدو تحت وفوق الأرض، وهذه مهمة حياتي” قال رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في مؤتمر صحافي ليلة السبت، ردّ فيه للمرة الأولى على أسئلة صحافيين. لكن لهجة التهديد والوعيد العالية لم تغّط على اهتزازه وفقدانه الكثير من ثقته بنفسه كما تجلى في إطلالته المرتبكة.
مرتديا قميصا أسودا (كوزيري الأمن الحالي والسابق يوآف غالانت وبيني غانتس) حاول نتنياهو ربما بثّ رسالة من الجدية والقوة خلال مؤتمر صحافي قال فيه إن إسرائيل في حرب استقلال ثانية. لكن لغة الجسد فضحت حالة البلبلة والارتباك الملازمة له منذ “طوفان الأقصى” المباغتة قبل 24 يوما، وحولتّه إلى مادة للنكتة السوداء لدى بعض المعلقين الإسرائيليين خاصة بعدما تورّط بعد ساعات من المؤتمر الصحافي في تغريدة حمّل فيها قيادة المؤسسة الأمنية مسؤولية الفشل، واضطر لمحوها والاعتذار عنها في صباح الأحد.
“لقد بثّت عيناه بلبلة معيّنة وأوضحتا لماذا يتهرّب نتنياهو حتى الآن من تقديم أجوبة للجمهور، وهو كالدولة والجيش، ليس في أفضل حال”. هكذا قالت صحيفة “إسرائيل اليوم” معبرّة عن مزاج سائد في الشارع الإسرائيلي حيال نتنياهو وما هو موجود وما هو مفقود لديه. وربما يفسّر هذا الاهتزاز الداخلي لدى نتنياهو قوله: “نحن هؤلاء الذين سينتصرون. في الأسابيع الأخيرة للحرب قمنا بهرس العدو من خلال قصف مكثف كي نساعد قواتنا على الأرض لدخول القطاع بالطريقة الأكثر أمنا ونحن في بداية الطريق. الحرب داخل القطاع ستكون صعبة وطويلة. هذه حرب استقلال ثانية وسنقاتل للدفاع عن الوطن ونجهز على العدو تحت وفوق الأرض، وهذا سيكون انتصار الأخيار على الأشرار، انتصار الحياة على الموت وهذه مهمة حياتنا، مهمة حياتي”.
وسخر رسم كاريكاتيري في صحيفة “هآرتس” اليوم من نتنياهو وهو يظهر منشغلا خلال المؤتمر الصحافي بهاتفه المحمول، وإلى جانبه غانتس وغالانت ممتعضين.
رسائل للفلسطينيين والإسرائيليين
لماذا يواصل نتنياهو التحدث بمصطلحات تاريخية دراماتيكية عن الحرب ويفاضل بينها وبين حرب 1948 وما هي رسائله ومراميه المبطنّة الموجهة للفلسطينيين وللإسرائيليين؟
في ذلك يشير نتنياهو ضمن رسائله للفلسطينيين أن إسرائيل ذاهبة للقيام بنكبة جديدة في غزة بالنار والدمار وبمساعدة الصمت الدولي والعربي الرسمي، مدركا أن الرقم 1948 مشحون جدا ومحفور عميقا في وعي الفلسطينيين الذين يريد ترهيبهم وكسر روحهم تزامنا مع القصف الجوي الوحشي. وهناك من يرى ذلك رغبة خبيثة للتمهيد لتشديد لخناق أكثر فأكثر على المواطنين العرب الفلسطينيين في إسرائيل (20%) ممن يتعرضون لضغوط غير مسبوقة تبلغ حد حشرهم داخل طنجرة ضغط تنذر بالانفجار جراء الاعتقالات والملاحقات الكارثية والتهديدات المتتالية ومحاولات تغيير نظم فتح النار لتسهل عملية استباحة دمهم.
وفي ذات الوقت، هي إشارة للإسرائيليين بأنه مستمر في إشباع شهوة الانتقام. وفي كل الأحوال، تعكس تصريحات نتنياهو رغبة إسرائيل في استعادة الاعتبار والمكانة وقوة الردع والثقة بعيون الإسرائيليين والفلسطينيين والعرب والعالم، من خلال حدث جلل يساوي بقدره وخطورته “طوفان الأقصى” الذي أصاب هيبتها بجراح بالغة.
ضمن المعركة المفتوحة على الرواية والوعي، فإن نتنياهو في قوله “حرب استقلال ثانية” إنما يقول للعالم بشكل مباشر “إنها حرب وجودية” في تبرير تمهيدي استباقي لتفهّم جرائم حرب ترتكب اليوم وغدا داخل القطاع كما أكد من القاهرة أمس المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية في مؤتمر صحافي.
لكن ليس ذلك فقط، فمقولة نتنياهو هي محاولة خبيثة يراها مراقبون إسرائيليون مفضوحة لإحاطة ذاته بهالة القيادي التاريخي على غرار دافيد بن غوريون الذي قاد “حرب الاستقلال الأولى” عام 1948، خاصة أنه يتعرّض لانتقادات قاسية وحادة لم يتخيلها في كوابيسه تتهمه بالغطرسة والاستخفاف والانشغال المرضي المفرط بنفسه وبحسابات الشخصية على حساب كل المصالح العليا.
انتقادات متصاعدة وتزداد سخونة رغم حالة الحرب، تحمله مسؤولية الفشل الذريع بصفته صاحب النظرية الفاشلة الرامية لتكريس الانشقاق والشقاق بين غزة ورام الله منذ 2007 وإضعاف عباس ودعم غير مباشر لحماس، كما يؤكد عدد كبير من المراقبين الإسرائيليين منهم محرّر الشؤون العربية السابق في صحيفة “هآرتس” عكيفا إلدار.
إقالة نتنياهو فورا
هذه التغريدة المذكورة ومحاولات نتنياهو المتكررة للتهرب من تحمل المسؤولية الشخصية عن هذه الهزة الأرضية المزلزلة التي ما زالت تزعزع ثقة الإسرائيليين بكل شيء منذ أحدثتها حماس في السابع من الشهر الجاري، دفعت “هآرتس” للدعوة لإقالة نتنياهو فورا.
في افتتاحيتها اليوم، تقول “هآرتس” إن تغريدة نتنياهو بعد منتصف الليل، والتي اتهم فيها رؤساء المؤسسة الأمنية في ذروة الحرب تلزم بإبعاده الفوري عن سدة الحكم. وتتابع: “رغم محو نتنياهو تلك التغريدة في صباح اليوم التالي، واعتذاره عنها جزئيا، على كل مواطن إسرائيلي وعلى رئيس إسرائيل ورؤساء المؤسسة الأمنية التأكيد لمرة واحدة وللأبد، أن استمرارية ولاية نتنياهو في هذه الساعات المصيرية هي بمثابة مغامرة على مستقبل الدولة”.
ومما زاد طينة نتنياهو بلّة اليوم، هو الكشف عن تفاصيل المذكرة السرية التي قدمها وزير الأمن الأسبق أفيغدور ليبرمان حول ضربة خطيرة محتملة من قبل حماس لنتنياهو وللمجلس الوزاري الأمني- السياسي المصغّر في 21 ديسمبر 2016، لكن المستوى السياسي والأمني استخفا بتحذيره. ونشرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” اليوم الإثنين تفاصيل كاملة لما ورد في تحذير ليبرمان السرّي لنتنياهو وفيها توقع نقل حماس المعركة من أرضها إلى “مواقع العدو واحتلال مستوطنات وأسر جنود” وغيره.
حرب التحرر من نتنياهو
إن مقولة نتنياهو المجلجلة لفظيا حول “حرب الاستقلال الثانية” والتي ربما تأتي تعويضا عن عدم إحراز الحرب مكاسب حقيقية على الأرض عدا زرع الدمار والكراهية، تواصل إثارة ردود فعل إسرائيلية ساخرة ورافضة للمفاضلة التاريخية.
“حرب استقلال ثانية؟ هذه حرب تحرّر من نتنياهو” هذا هو عنوان لمقال نشرته “هآرتس” اليوم للفنانة الإسرائيلية البارزة نوريت كوهن، التي قالت إنه في أكثر من مفهوم، هذا تصريح فارغ وتوليفة كلمات بلا معنى جاءت على ما يبدو بنصيحة واحد من مهندسي الوعي الطامعين بأن يقبل الإسرائيليون هذا التوصيف.
وتتابع كوهن في مقالها، ساخرة: “بدلا من قيادة حقيقية، نرى ونسمع ونشاهد هواء ساخنا وكذلك شعارات فارغة بدلا من أفعال”.
في المقابل ترفض أوساط إسرائيلية مصطلحات نتنياهو وتحذّر من تبعاتها، ومنها رئيس المخابرات العامة (الشاباك) الأسبق يورام كوهن، الذي نفى في حديث للقناة 12 العبرية أمس، أن تكون هذه “حرب استقلال ثانية” وقال إن المقارنة ليست موضوعية وحساباتها سياسية، وإن إسرائيل دولة قوية رغم تلقيها ضربة موجعة.
في كل الأحوال، ورغم أن نتنياهو سياسي مجرّب، ويقود اليوم حكومته السادسة، ورغم أن أوساطا إسرائيلية قالت عنه إنه سيد الأمن، وإنه ساحر، لكن يبدو من شبه المؤكد أنه غرق سياسيا في “طوفان الأقصى”. وبعد انتهاء الحرب، لن ينجح في إبقاء مقود الحكم بين يديه، رغم استماتته هو وزوجته سارة. فبعدما تنتهي الحرب وتنتهي حرب البقاء التي يديرها منذ اليوم الأول، ستشهد إسرائيل هزة أرضية سياسية على شكل لجنة تحقيق رسمية وحملات مسائلة ومحاسبة حول انهيار الاستراتيجيات والمفاهيم، ستنتهي بإسقاط حكم نتنياهو، وباستقالات وإقالات لقادة عسكريين كما حصل في الماضي.
وهناك من يعتبر وبحق، أن المحاسبة والمسائلة الصارمتين هي الطريق الوحيد لترميم الإسرائيليين الثقة بالنفس وبالمؤسسة الحاكمة وبالمستقبل وبكل شيء.