كما في طبريا.. سقطت حيفا بيد الصهيونية بتواطؤ بريطاني مفضوح- (صور)
عربي تريند _ يمتاز نيسان بصفته أجمل الشهور، فهو شهر الانبعاث والازدهار وفورة الحياة من جديد. هذا في الطبيعة، لكن في الذاكرة الفلسطينية فهو أبعد ما يكون عن النضارة والخضرة، شهر أسود بالنسبة لطبريا وحيفا، ففيه احتلتهما العصابات الصهيونية بمؤازرة الاستعمار البريطاني.
طبريا كانت أولى المدن الفلسطينية التي سقطت مضرجة بدمائها في الثامن عشر من أبريل/ نيسان 1948 وتلتها حيفا بعد أيام قليلة، وفي مثل هذا اليوم الثالث والعشرين من ذات الشهر، بدت نازفة شبه فارغة بعدما كانت فوارة بالحياة مزدهرة اقتصاديا وثقافيا، حتى سُميت بعروس الكرمل.
في هذه الذكرى الموجعة، يستذكر ابنها المؤرخ دكتور جوني منصور مأساتها، بالإشارة إلى أنه في مثل هذا اليوم وقبل 75 عاما انهارت مدينة حيفا على سكانها الفلسطينيين، أصحابها وبُناتها منذ قرون طويلة، تشتت شملهم، وتفرقوا في بقاع الأرض نازحين، مشردين مطرودين لاجئين.
في حديث لـ”القدس العربي” يوضح الدكتور جوني منصور، أن محتلي المدينة قاموا بهدم كل ما بناه أصحابها عبر الأزمان، وبذلوا الغالي والنفيس من أجل ازدهار حياتهم وتطورها. وحلّ محلّهم غرباء، كلّ همّهم الاستيلاء والسيطرة والقمع والطمس وتغيير المعالم. ويضيف: “لم تعد حيفا كما أرادها واشتهاها أهلها أصحاب البلاد. العزاء الوحيد أنّ من بقي فيها يُمسك بالجمر ويعمل من جديد على إعادة تشكيل المدينة، أو في الحدّ الأدنى بناء مجتمع المدينة وسط فضاءات من الممارسات السياسية والاقتصادية الصعبة والقاسية والمؤلمة”.
إنها حيفا.. إنها الجنّة
يتوقف المؤرخ جوني منصور عند معركة أخرى وقعت في المدينة عشية سقوطها بيد العصابات اليهودية، مرجحا أنها أبرز هذه المعارك، إلى جانب معركة الحليصة وبيت النجّادة، هي المعركة على قصر الخوري. عن ذلك يقول: “ولا بُدّ لنا قبل التطرُّق إلى تفاصيل المعركة وتداعياتها، أن أُقَدِّم موجزًا عن القصر(أي موقع المعركة) وعن أصحابه، وما حلّ به وبهم على مر الزمن”.
عائلة الخوري لبنانية مسيحية مارونية من بلدة بكاسين. وصل أحد أبرز رجالاتها سليم الخوري إلى حيفا في سبعينات القرن الـ19. وكان في جيبه بعض المال، فاشترى قطعا من الأراضي في مدينة حيفا، وفي مناطق الياجور والخرَيبة (جبل الكرمل) وقيرة وقامون والخضيرة وكركور وغيرها. وعمل في قطاع التجارة، وكان له حظ وفير في حصد أموال كثيرة، ما سهّل عليه التبرع بقطعة أرض لإقامة الكنيسة المارونية في المدينة، وأيضا لبناء بيت له عند منحدرات جبل الكرمل يُشرف على البحر.
وطبقا لمنصور، لم يكن البيت الذي بناه في 1906 عاديا، كان أشبه بقصر ضخم، فيه عشرات الغرف والصالات والشرفات. وتميّز بتصميمه المدمج بين الأوروبي والعربي والعصري. كان القصر آية في الفن المعماري في ذلك الزمن، كما تدلل الصور حتى اليوم. إلا أن سليم الخوري وورثته تعرّضوا إلى تفشي داء بيع أراضيهم لممثل الصهيونية “حانكين” فتمّ بيع أراضي الياجور ثم الخضيرة، عندما بدأت مصالح آل الخوري بالتزعزع.
ولما لم يتمكنوا من تسديد ديونهم، وضعت دائرة الإجراء يدها على القصر، فاضطرت العائلة إلى بيع منطقة الخريبة لشركة “هخشارات هييشوف” الصهيونية وتمّ تحويل القصر إلى مقر لشركة القطارات الفلسطينية، وهكذا بدّدت العائلة ثروتها ولم يبقَ لها شيء. موضحا أن عائلة خوري بعد ذلك، غادر بعض أفرادها إلى لبنان قبل النكبة، وبعضهم عند وقوعها. وأُطلق اسم العائلة على الشارع الممتد من غربي القصر وصولاً إليه. أما القصر نفسه، فبقي مهجورا بعد سقوط المدينة وحتى هدمه في مطلع الستينات من القرن الماضي، وبناء مجمع تجاري مكانه باسم “مُجمّع الأنبياء”.
معركة القصر
عن معركة القصر، يستذكر جوني منصور أنه في اللحظة التي اعلن فيها الجنرال البريطاني هيو ستوكويل قائد حيفا والمنطقة عن نيته بتنظيم عملية مغادرة قواته لحيفا، انقضّت عصابات الهاغاناة على معظم ثكنات وقواعد ومخازن الجيش البريطانين واستولت على السلاح والذخيرة والمعدات التفعيلية (بمعرفة وموافقة القائد، وإن لم يكن ذلك رسميا).
وبدأت قوات الهاغاناة بقصف أحياء المدينة مثل حيّ وادي الصليب، الحليصا، وادي النسناس، البلدة التحتا، الحيّ الشرقي الواقع في شرق جامع الاستقلال، وكان هدفها هو إخلاء المدينة من سكانها، والسيطرة عليها بالكامل. فتحرّكت فرق من المقاومين من أهالي حيفا الذين لبُّوا نداء الدفاع عن المدينة بالرغم من قلّة السلاح والذخيرة وقلّة التنظيم. بعضهم وصل إلى بناية قصر الخوري وسيطروا عليها، وجعلوها مقرا لهم، والبناية واقعة على خط التماس بين الأحياء العربية وحي الهادار، وقريبا من حيّ وادي النسناس العربي.
وينوه جوني منصور أنه مقابلهم، تحرّكت قوات من الهاغاناة من طرف شارع الأنبياء باتجاه القصر وانهالت القذائف على القصر وعلى الشوارع المحيطة، لم يبق أحد من السكان في بيوتهم. ويضيف: “كان الميناء يعجُّ بالنازحين خوفا من الموت الذي شهدته شوارع وطرقات وأدراج المدينة. حيث استعملت الهاغاناة مدافع الهاون وألقت بقذائف صوتية، كما دحرجت براميل المتفجرات والتي احتوت على مسامير ومتفجرات ومواد كيماوية مشتعلة كشلالات النار(كما وصفها المؤرخ اليهودي إيلان بابيه في كتابه التطهير العرقي في فلسطين)، بالإضافة الى تفجير سيارات مفخّخة في مواقع مختلفة من المدينة، ما دفع بالأهالي إلى البحث عن الأمان في أي مكان ريثما تهدأ الحالة.
وطبقا لجوني منصور، هكذا بدأت الأحياء العربية القريبة من مواقع الاشتباك تشهد نزوحا عنها، وبالرغم من قلّة الذخيرة والنقص فيها (جراء تلكؤ وتقاعس القيادات الفلسطينية والعربية على حدٍّ سواء)، ووصول أنباء تفجير قافلة السلاح التي قادها الشهيد الملازم محمد حمد الحنيطي في معركة موتسكين في 17 آذار 1948، إلا أن المقاومين في قصر الخوري شكلوا سداً منيعاً أمام قوات الهاغاناة. ولمّا علم وأدرك قادة الهاغاناة، وعلى رأسهم موشي كرملي قائد منطقة حيفا، بأن المعركة ستطول، أمر بإلقاء زجاجات حارقة ومتفجرات قوية فاشتعل القصر بالنيران وتوقفت المعركة.
اللجنة القومية العربية
يقول جوني منصور مستغربا، إنه في المقابل، كانت اللجنة القومية العربية تتفاوض مع الهاغاناة بوساطة ستوكويل بدلاً من أن يوفر الحماية لأهالي المدينة، وبالرغم من قراره بمغادرة المدينة وإخلاء معظم القواعد البريطانية فيها، تحوّل إلى وسيط. لكن اللجنة القومية رفضت شروط الهاغاناة المذلة والمهينة. إذ فرضت الشروط خنوع واستسلام المدينة وتسليم السلاح لـ”محرريها”، والإذعان لأوامر القيادتين السياسية والعسكرية اليهودية. وكان ذلك في 22 نيسان 1948 ومن بقي من أهالي حيفا العرب، لا يتجاوز عددهم الستة آلاف (من أصل سبعين ألفا تقريبا)، قرّر بعضهم مغادرة المدينة. وطبقا لمنصور، قامت قيادة الهاغاناة بتجهيز حافلات (بينها من كان تابعا لعرب من المنطقة)، وسيارات شحن لنقلهم إلى الجهة الشرقية من المدينة، وكانت هذه هي الموجة الأخيرة من موجات ترحيل سكان المدينة عنها.
من حيفا إلى عكا
وتمّت عمليات ترحيل على مدى أربعة شهور تقريبا عبر الميناء، حيث كانت هناك القوارب والسفن والزّحافات تقوم بنقل المهجرين/المُرَحَلين إلى عكا وصور وصيدا وبيروت (في لبنان)، وحتى إلى بور سعيد (في مصر). وعن ذلك ينبه جوني منصور: “يحلو لبعض المتوهمين والمتأسرلين الترويج (إلى يومنا هذا) أنّ شبتاي ليفي، رئيس بلدية حيفا اليهودي قد وصل إلى بوابة الميناء راجيا من العرب عدم تركها. أين كان شبتاي ليفي منذ نزوح الموجة الأولى في شهر كانون الأول 1947؟ وأين كان اليهود جيران العرب طيلة هذه الفترة؟ لم نسمع حتى يومنا هذا أن يهوديا واحدا من أهل المدينة، أو من مستوطنيها قد آوى عربيا أو أقنعه بعدم الرحيل، أو أوقف تهجيره عن المدينة؟
كما يتساءل منصور بالقول إن 75 عاما مرّت على سقوط حيفا بيد محتليها الذين يتبجّحون بأنهم حرروها، وأن الحكم العبري سيوفر لسكانها الأمن والأمان والعيش المشترك… مِمّن تمّ تحريرها؟
خذلان المجتمع الدولي
وعن ذلك يقول منصور: “75 عاما مرّت على سقوط عروس البحر وعروس الكرمل بيد الغرباء المحتلين الذين عملوا ولا زالوا على تغيير معالم المدينة العمرانية، وأبرزها هدم أكثر من 70% من العمران العربي، وإقامة عمران حديث مكانه بعد أن تم استغلال هذا العمران لإيواء المهاجرين المستوطنين”. ويؤكد أن عملية الطرد في حيفا كغيرها من عمليات الطرد في فلسطين، كانت مندرجة في خطة التطهير العرقي المعروفة بـ”خطة داليت”: الطرد، والتفريغ، ثمّ الاستيلاء على البيوت والأراضي والعقارات بقوانين تمّ تشريعها لخلق حالة قانونية في إسرائيل، والظهور أمام العالم بغطاء شرعية هذه القوانين. والعالم، أيّ الدول التي اعترفت بإسرائيل، لم يعمل منذ 75 عاما على تطبيق حقّ العودة، وبضمنه عودة الممتلكات والأملاك. وهذا حق لا تنازل عنه.
ترحيل الأسماء
يؤكد منصور أيضا أنه تمّت إبادة الإنسان والمكان والأسماء. فالأسماء تمّ ترحيلها أيضا، واستُبدلت بأسماء عبرية وتوراتية وصهيونية، منوها أنه تمّ تبديل قرابة 80% تقريبا من الأسماء على مدى 75 عاما، واختفى المكان الفلسطيني عن العين، وحلّ المكان اليهودي- الإسرائيلي- الصهيوني.
وخلص جوني منصور الذي يجري جولات ميدانية لنقل رواية حيفا وإنقاذها أمام مشاريع الطمس، للقول: “نُضيء شمعةً عن أرواح شهداء المدينة الذين نعرف أسماء بعضهم، ونعرف قصصا عن بطولاتهم دفاعا عن المدينة التي عاشوا فيها ومن أجلها. حيفا، المدينة والتاريخ والتراث تحمل وجعا وألما في القلب والفكر. وما بقي منها هو الذاكرة التي يحملها كلّ فلسطيني عن مدينته، بما فيها مدينة حيفا. إنّها حيفا، إنّها الجنّة كما كتب ابنها الشاعر المرحوم أحمد دحبور”.