عناق الشعر والفن.. منصف الوهايبي وبول كلي
عربي ترنيد_ بين الشاعر المنصف الوهايبي والرسام بول كلي نوعٌ من الضيافة الشعرية في تواشج رفيع بين الشعري والتشكيلي. فكأننا نرى الوهايبي في لوحة بول كلي، وبول كلي في قصيدة الوهايبي. بول كلي رسامٌ مولعٌ بالشعر. المبدأ المرئي الذي عرفه بول كلي من خلال الأشكال والألوان والضوء، هو دعوة لدخول ذات المبدع. وقد أهدى الوهايبي قصيدته «على أبواب القيروان» لبول كلي. وهذا الإهداء بمثابة تصديرٍ يدل على علاقة التفاعل والتواشج الفني بين الشاعر والفنان. كما أن صورة الغلاف لمجموعته الشعرية «من البحر تأتي الجبال» لوحة لبول كلي، وعنوان قصيدتيْه «عند أبواب القيروان» و»منازل سان جرمان» يُحيلان مباشرة على لوحتيْ بول كلي، أي مستوحى من إحدى لوحات بول كلي. فقد انبهر بول كلي بكمية الضوء في الإشراق بالقيروان.
فاستحوذ اللون على مشاعره، وولد لديه شعوراً بالسعادة. حينذاك قال بول كلي «أنا مصور، أنا واللون شيء واحد». هكذا غير الضوء وِجهة بول كلي التشكيلي بعدما أسره اللون في رحلته بين القيروان والحمامات. وقد اتجه إلى الرسم المائي التجريدي، كما نجد في لوحة كلي «نظرة إلى ميناء الحمامات» ولوحة «جامع الحمامات». لكأن ضوء القيروان الأول، كما يرى سعدي يوسف، ظل يُفْعِمُ نفسَ بول كْلي حتى صار نوراً. فالألوان يختلف بعضها عن بعض بحسب قدرة الفنان على الخلق والإبداع والابتكار، حسب هيغل. والوهايبي متأثرٌ بتجربة بول كلي التشكيلية إبان إقامته في تونس، التي أسست لمرحلة جديدة في فضاء الفن التشكيلي عند بول كلي. فقد امتازت لوحاته بشاعريتها المستوحاة من هندسة المدن وسحر الألوان. وهو ما امتازت به شعرية المكان والمدن عند الوهايبي. وقصيدته «على أبواب القيروان» تشير إلى ذهنٍ فذ وخيالٍ واسعٍ. فقد تشكلت القصيدة في ذهن الوهايبي ومخيلته بحِس الشاعر والفنان.
لم يسلط الوهايبي قصيدته في لوحة، لكنه يقتحم جدار الحدود بين الثقافات والفنون والحفاوة بالآخر. وهذا الإحساس بأصداء ضيافة الآخر هو ما نلمسه في قصيدته التي استلهمها برؤية جديدة مستوحاة من الفضاء التشكيلي لبول كلي في رسومه المائية المستلهمة من القيروان، وبعض المدن التونسية بتناغم وتفاعل مع شعرية الأشكال والألوان في لوحات بول كلي. سألتُ الوهايبي عن علاقته مع بول كلي فقال بأن هذه العلاقة شبيهة بعلاقة الشاعر روني شار المأخوذ بالرسم مع الرسام جورج براك، «حتى أن شار لم يجد بدا من الاعتذار لبراك، ويقول له «عزيزي براك أعتذر لك، لأني بلا شك أسأت سرقتك، أو سرقتك بشطط. آثارك كل مكتمل، وما يوافقني أمامها، هو الفرحة، والانفعال أو بعبارة أدق صمت الابتهاج الداخلي؛ ذاك الذي تؤاخذه العيون خفية، بل نحن نحار إزاء هذا الاتحاد الوثيق، فهل القصيدة هي التي تدور حول آثار براك، أم هل هي آثار براك تدور حول قصيدة شار؟ أظن أن تلك هي علاقتي ببول كلي». فهمتُ من كلام الوهايبي أنه وبول كلي حاولا أن يغمسا معاً فرشاتهما في مداد القلب، فعبرا معاً عن لذة القلب لكن بطريقتيْن مختلفتيْن بين شعرية اللوحة وشعرية القصيدة، بعد أن وجد كل منهما في القيروان فضاءه الإبداعي.
المنصف الوهايبي وشعرية الضوء واللون
ينتصر الوهايبي للفن والحرية في نزوعه إلى التشكيل في أعماله الشعرية، ويستلهم قصيدته من لوحة بول كلي بطريقة حسية بصرية، يشكلها اللون في علاقة تجاورية بإعادة تشكيلها شعرياً. هكذا انبعثت قصيدة الوهايبي «على أبواب القيروان» من مدارات الضوء وشساعته، استخلص فيها معانيه من خلال اللون، كما نجد في التصوير التجريدي. إن الضوء واللون في سياقاته المختلفة إشارة إلى العلاقة التي تربط الإدراك بالعوالم البصرية المرئية. فالضوء تتفرع منه الألوان إلى نفوسنا من خلال بناء التصورات المرتبطة بانفعالاتنا الداخلية، ما يجعلنا نفضل بعض الألوان على الأخرى. وللضوء تأثير كمادة فيزيائية بصرية في نفسية الإنسان وفي الأشياء، لكَوْن الضوء مادة فيزيائية، وشكلاً من «أشكال الطاقة المشعة ويتكشف العالم البصري ويتجلى من خلال الضوء، ويشتمل ضوء الشمس الذي هو ضوء أبيض على كل ألوان الضوء التي تشكل الجانب المرئي من الطيف الكهرومغناطيسي». (شاكر عبد الحميد، الفنون البصرية وعبقرية الإدراك). وللألوان استراتيجياتها وسياقاتها المختلفة في الشعر والرواية، وفي فن التشكيل والمسرح وغيرها. يقول الوهايبي في قصيدة «عند أبواب القيروان «من ديوانه «من البحر تأتي الجبال» التي أهداها إلى الرسام السويسري الألماني بول كلي، والتي تمتاز بلغة وصفية بصرية يستلهم فيها الشاعر لغة الرسم من خلال الألوان والأضواء.
يقول: قل لنا /من أي باب جئتها/ كيف تناهيت إلى أسوارها/ كيف قلت اللون.. صرت اللون/ حتى استسلم الضوءُ/ وأغفى في يديك الجمرتين. هكذا احتفى الوهايبي برسومات بول كلي بحيث يبدو في هذا النص الشعري منصف الوهايبي شاعراً، وبول كلي رساماً. فلغة القصيدة تحمل مواصفات اللغة الملحمية الشعرية، واللغة البصرية التشكيلية. إنها قصيدة عشق المكان والتاريخ، ومراتع الطفولة. وُلِدت قصيدة الوهايبي بين الأيقوني واللغوي. فجاءت رسماً بالكلمات. وقد أهدى الوهايبي أيضاً قصيدته «منازل سان جرمان» إلى بول كلي. وهي نوعٌ من شعرية اللون في تفاعله مع شاعرية اللوحة. فالذاكرة الشعرية للشاعر مرتبطة بالقيروان، مدينة الضوء. فالعديد من الشعراء خلدوا مُدناً عربية كالقدس، وبيروت، ودمشق، وبغداد، والقاهرة، وفاس، والقيروان، وغيرها. فالقيروان عند الشاعر رمزٌ شعري، ومكانٌ جغرافي تتزامن فيه الحضارة التونسية العربية في الماضي والحاضر، وكمكان شعري فني.
قصيدة الوهايبي وُلدت من رحم التأمل العميق للأشياء تأملاً حِسياً وبصرياً. فهي تواصل العوالم المرئية البصرية اللامتناهية مع كينونة الشاعر، فالمدن قد تختلف معالمها الجغرافية والتاريخية والحضارية، لكن التجربة الشعرية للمنصف الوهايبي تحضر ككينونة. فالقيروان تحضر بمعناها الكينوني المنفتح على تعدد القراءات والتأويلات. ومن خلال القيروان يمكن التواصل مع مدن أخرى في مقاربة تخييلية شعرية، وفنية، وتاريخية لصورة المدينة أو صوَر المدن المتعاقبة. مدينة مصنوعة من أفكار، وأحلام، ومشاهدات. وهو ما يمنحها ولادتها الشعرية الجديدة، بحيث يمكن للفنان التشكيلي أن يرافق قصائد الوهايبي المدينية، ويُرفق مدنه الشعرية بالعديد من الرسوم واللوحات الفنية لينفذ بها إلى معالم التجريد والضوء، في محاولة الكشف عن بعض أسرارها المرئية.
هكذا فجر الشاعر ينابيع الألوان السحرية في امتدادها اللانهائي، من خلال الوعي بجمالية اللوحة. فالإنسان يتأثر كما تتأثر الأمكنة بطبيعة الضوء واللون. إن اللون هو أكثر مظاهر التصوير أهمية. فهو يُثري الأعمال الفنية الإبداعية سواء كانت كتابية أو بصرية. قصيدة الوهايبي، المهداة لبول كلي، لوحة تنتظم داخل عناقيد ضوئية متواشجة بين شعرية القصيدة وشعرية اللوحة البصرية. يقول الوهايبي في سياق حديثه عن أثر التشكيل في بناء النص الشعري « ليس المقصود منه أن يبلغ الشاعر بالصورة شكلا من التماثل أو المحاكاة، وإنما العثور على منطقة تتجاور فيها الأشياء أو يتلبس بعضها ببعض.» العديد من التشكيليين استوحوا أعمالهم من قصائد الشعراء، والعديد من الشعراء استوحوا أعمالهم من لوحات الفنانين في تمازج، وتفاعل، وتواشج فني لنصيْن مختلفيْن. المنصف الوهايبي من الشعراء الخلاقين. فالشعر عنده رؤية من رؤى العالم. والشاعرية هي معرفة كيفية ملامسة الأشياء باللغة، كما جاء في أحد حواراته. كما أن الشعر، حسب الوهايبي، هو الذي يجعل اللغة رحبة واسعة، لأنه لغة المجازات والاستعارات. فأثر الشعرية لا يوجد في القصيدة حسب، ولكنه موجودٌ في كل شيء. واللغة العربية لغة شاعرة من ذاتها. والقصيدة العربية الحديثة أصبحت تُكتب للعين لا للأذن بتعبير عبد العزيز المقالح.