مشهد معقّد في الشمال السوري: وساطة روسية وضغط أميركي
عربي تريند_ في ظل مؤشرات على تأجيل تركيا العملية العسكرية البرية التي لوّحت بها في الشمال السوري ضد الوحدات الكردية، تتكثف الاتصالات السياسية واللقاءات بحثاً عن مخرج لهذا الوضع، مع سعي روسيا والولايات المتحدة لتجنّب حصول هذه العملية. لكن أنقرة في المقابل تضع شروطاً لقبول أي خطط أميركية أو روسية تخص مصير هذا الشمال الذي بات في قلب المشهد السوري المعقّد.
وفد روسي في إسطنبول
ويحضر ملف الشمال السوري كبند رئيسي على جدول زيارة وفد روسي إلى إسطنبول اليوم الخميس وغداً الجمعة. وأعلنت وزارة الخارجية التركية، في بيان أمس، أن الوفد الروسي سيكون برئاسة نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرشينين، أما الوفد التركي فيترأسه نائب وزير الخارجية سادات أونال.
وأضافت أنه “من المنتظر أن يناقش الوفدان ملفات إقليمية مثل سورية وليبيا وفلسطين، إلى جانب تطبيق اتفاقية شحن الحبوب عبر البحر الأسود”، من دون تقديم المزيد من التفاصيل.
من جهتها، أفادت وسائل إعلام تركية، ومنها قناة “a خبر” المقربة من الحكومة التركية، بأن الملف السوري بشقيه السياسي والعسكري سيتم تناوله في هذا اللقاء، موضحة أن الشق السياسي سيكون متعلقاً بموضوع تطبيع تركيا مع نظام بشار الأسد، أما العسكري فيرتبط بتهديدات تركيا بتنفيذ عملية عسكرية جديدة في المنطقة. ومن المتوقع أن يستمع الوفد التركي لما في جعبة نظيره الروسي، وسيؤكد في المقابل شروط أنقرة لعدم إجراء العملية العسكرية البرية.
ويبدو أن الجانب الروسي يدفع باتجاه تفعيل اتفاق أبرمه مع الجانب التركي أواخر العام 2019 وينص على خروج “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) من الشريط الحدودي بعمق 30 كيلومتراً، وانتشار قوات النظام على الحدود ونقاط التماس.
كما تشير المعطيات والوقائع إلى أن واشنطن ترفض حتى اللحظة أي تغيير في خريطة السيطرة الميدانية في الشمال السوري، وتحاول إقناع أنقرة بإلغاء عمليتها البرية مقابل ضمانات من قبيل إعادة هيكلة “قسد” لتبديد مخاوف الأتراك من هذه القوات التي يعتمد عليها الأميركيون في محاربة تنظيم “داعش”.
وفي السياق، قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض جون كيربي، أمس الأربعاء، إن الولايات المتحدة كانت واضحة مع تركيا بشأن مخاطر عملياتها العسكرية في شمال غرب سورية، حتى في الوقت الذي تدعم فيه واشنطن حق أنقرة في الدفاع عن نفسها.
وأضاف كيربي للصحافيين “لا نريد أن نرى عمليات عسكرية تُجرى في شمال غرب سورية، إذ ستعرض المدنيين لخطر أكبر مما هم عليه بالفعل وتهدد جنودنا وأفرادنا في سورية وكذلك مهمتنا في مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية”.
وفي ما يتعلق بالشروط التركية المقدمة للطرفين الأميركي والروسي، قالت مصادر دبلوماسية تركية لـ”العربي الجديد”، إن “أنقرة لم تحدد شروطاً تعد جديدة بقدر ما هي مطالب سابقة كانت قد طُرحت قبل سنوات لموسكو وواشنطن وتتعلق بمناطق الشمال السوري”.
تركيا تطالب الجانب الأميركي بمنطقة تمتد إلى 30 كيلومتراً خالية من العناصر المسلحة التابعة للوحدات الكردية
وقالت المصادر إن تركيا “تطالب الجانب الأميركي بمنطقة تمتد إلى 30 كيلومتراً خالية من العناصر المسلحة التابعة للوحدات الكردية، وإخراج جميع قيادات حزب العمال الكردستاني من المنطقة، وإيجاد قوى محلية لإدارة هذه المناطق”.
وأوضحت أن “تركيا طالبت أيضاً الجانب الروسي بمنطقة 30 كيلومتراً خالية من مسلحي الوحدات الكردية”، مضيفة أنه “مع اقتراح روسيا قيادة وساطة مع قسد وإحلال قوات النظام السوري محل قسد في المناطق التي تهدد أنقرة بشن عملياتها فيها، شددت أنقرة على مطلبها بألا يكون انتشار قوات النظام شكلياً، وأن تقطع هذه القوات أي علاقة لها مع قسد، وهو ما يبدو صعباً نظراً للعلاقة القائمة بين الطرفين”.
وبيّنت المصادر أن “تركيا تود حسم هذه المسألة وعدم تأجيلها، على أن تقود المفاوضات الجارية مع أميركا وروسيا إما لتنفيذ المطالب التركية، أو الانتقال لوضع الجدول الزمني المطلوب لشن العمليات العسكرية الجديدة”.
وكانت قناة “الجزيرة” قد نقلت الثلاثاء عن مصدر تركي رسمي، أن تركيا أعطت مهلة محددة للجانبين الأميركي والروسي لإخراج “قسد” من منبج وتل رفعت وعين العرب. وقال المصدر إن أنقرة أبلغت واشنطن وموسكو بأن المهلة الزمنية لن تمدد، وأن البديل سيكون عملية عسكرية ضد القوات الكردية.
وبحسب المصدر، فإن الجانب الأميركي اقترح إعادة هيكلة “قسد” ومنح دور أكبر للمكون العربي في إدارة منبج وتل رفعت وعين العرب. ووفقاً للمصدر، فإن تركيا اشترطت إنهاء سيطرة “قسد” على المنشآت النفطية قبل النظر في المقترحات الأميركية.
وأضاف المصدر أن الجانب الروسي وضع شروطاً تتعلق بالملف الأوكراني مقابل تقديم تنازلات ميدانية وسياسية في سورية. وقال المصدر إن روسيا عرضت رفع الغطاء عن منطقة الشهباء في ريف حلب وعين العرب لتسهيل دخول القوات التركية إليهما.أخبار
دور روسيا في المفاوضات حول العملية التركية
وتبدو موسكو “في موقف محايد بين قسد وبين تركيا”، وفق قائد “قسد” مظلوم عبدي، الذي أكد في تصريحات صحافية أمس الأربعاء أن “الضغط الأميركي على أنقرة كان له تأثير إلى حد ما”، في إيقاف حملة القصف الجوي التركية التي استهدفت مئات الأهداف في الشمال السوري التابعة لـ”قسد”.
وتعليقاً على هذه التطورات، قال بسام اسحق، عضو المجلس الرئاسي لـ”مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد) وهو الذراع السياسي لـ”قسد”، في حديث مع “العربي الجديد”: “تؤكد تصريحات المسؤولين الأميركيين في واشنطن بشأن الوضع في الشمال والشرق السوري أنهم لا يؤيدون عملية عسكرية تركية في المنطقة”.
وتابع اسحق: “لم يقدّم الطرف التركي للأميركيين أي دليل يثبت تورط قسد في التفجير الأخير في شارع الاستقلال بإسطنبول” الذي وقع في 13 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وأشار إلى “أن الأميركيين متمسكون بموقفهم المعلن بأنهم ضد أي عمل عسكري يعطل جهود “قسد” في محاربة الإرهاب في سورية”.
اسحق: الأميركيون متمسكون بموقفهم المعلن بأنهم ضد أي عمل عسكري يعطل جهود “قسد” في محاربة الإرهاب في سورية
وأعرب عن اعتقاده بأن “الضغط التركي في شمال سورية يبدو مرتبطاً بالوضع الداخلي لديهم، ولكن الولايات المتحدة لا تبدو على استعداد للتخلي عن تواجدها العسكري في سورية في الظروف الدولية الحالية”، وفق اسحق.
وأطلقت تركيا في 20 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي عملية “المخلب-السيف” ضد “وحدات حماية الشعب” الكردية في شمال وشمال شرق سورية، بعد اتهامها بتدبير التفجير الذي وقع في إسطنبول وأسفر عن 6 قتلى وعدد من المصابين، وهو ما نفاه المسلحون الأكراد.
وشملت العملية ضربات جوية ومدفعية أدت إلى مقتل عدد من قياديي وعناصر “قسد” والوحدات الكردية، فيما بقيت العملية البرية التي توعّدت بها أنقرة مؤجلة.
بين النفوذ الأميركي والروسي
وتدخل منطقتا منبج (غرب الفرات) وعين العرب (شرق الفرات)، ضمن دائرة النفوذ الأميركي، بينما تُعتبر تل رفعت (غرب الفرات) منطقة نفوذ روسي. ومن المرجح أن موسكو التي تقود وساطة حالياً من أجل التطبيع بين أنقرة ونظام بشار الأسد، لن تقف في وجه الأتراك في حال توغلهم براً باتجاه منطقة تل رفعت في ريف حلب الشمالي.
ولكن السيطرة على تل رفعت فقط، لا ترضي الجانب التركي الذي يخطط لطرد “قسد” من مناطق أكثر حيوية، مثل عين العرب ذات الغالبية الكردية من السكان، كخطوة واسعة للقضاء على هذه القوات بشكل كامل.
ورأى الباحث السياسي التركي هشام جوناي، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “تأجيل العملية العسكرية التركية دليل على وجود سعي لإيجاد حلول، ولا سيما مع الولايات المتحدة”، مضيفاً: “تقارب تركيا مع روسيا ورقة ضغط بيد أنقرة التي تلوّح بالانضمام إلى المحور الروسي الصيني إذا لم تسمح لها واشنطن بشنّ عملية في الشمال السوري لإنشاء منطقة آمنة”.
وتابع: “ربما يشن الرئيس رجب طيب أردوغان العملية في الربيع المقبل قبيل إجراء الانتخابات في تركيا (المقررة في يونيو/حزيران 2023) ليحافظ على شعبيته من باب مكافحة التنظيمات الإرهابية”.
جوناي: تأجيل العملية العسكرية التركية دليل على وجود سعي لإيجاد حلول، ولا سيما مع الولايات المتحدة
وإيران ليست بعيدة عما يجري في الشمال السوري فهي تملك قوات ومليشيات في ريف حلب الشمالي، في منطقتي نبّل والزهراء على التخوم الشمالية لحلب وفي محيط منطقة تل رفعت.
ويبدو أن طهران تدعم أي تحرك من شأنه إضعاف موقف الوحدات الكردية في شمال وشمال شرق سورية، ما يعني الحصول على مكاسب للنظام الذي يريد العودة إلى شرق الفرات الغني بالثروات لإنعاش اقتصاده المتهالك. ولكن الدور الإيراني في الشمال السوري يبدو محدوداً وبلا تأثير فعلي في ظل الكباش السياسي ما بين أنقرة وواشنطن وموسكو.
ولفت النقيب المنشق عن قوات النظام، الباحث في “المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام” رشيد حوراني، في حديث مع “العربي الجديد”، إلى أن المقترحات الأميركية التي قُدمت إلى الجانب التركي “تزامنت مع إلغاء الكونغرس الأميركي الشروط التقييدية التي كانت موجودة لبيع تركيا مقاتلات اف 16”.
وتابع حوراني: “من الواضح أن واشنطن تحاول كسب الأتراك، ومن ثم أعتقد أن الجانب الأميركي لا يمانع بشن عملية تركية ضد مناطق تابعة للنفوذ الروسي”.
وفي السياق، ذكرت مصادر قيادية في الجيش الوطني السوري المعارض، المدعوم من تركيا، في حديث مع “العربي الجديد”، أنه “لا جديد حول العملية العسكرية”، مضيفة: “ننتظر ما ستسفر عنه التحركات السياسية”. وذهبت المصادر إلى القول: “كل شيء وارد على الرغم من ضبابية المشهد”.
ويعد الجيش الوطني الذي يضم فصائل المعارضة في الشمال السوري رأس حربة في أي عملية عسكرية تركية برية، وهو يريد توسيع نطاق سيطرته في الشمال السوري على حساب “قسد” التي تبدو حتى اللحظة متمسكة بموقفها الرافض أي تنازل على الأرض. وتدرك هذه القوات أن خروجها من مناطق تل رفعت ومنبج وعين العرب يعد بداية النهاية لها، وخروجاً من المشهدين السياسي والعسكري في سورية.