الروائي جلال برجس يكتب عن السرديات العربية والهوية
كتب جلال برجس
يكاد السرد بكل أشكاله أن يكون أهم الاشتغالات البشرية التي يمكن للهوية أن تتضح عبرها، فقد عبّر الإنسان الأول في رسوماته ونقوشه على جدران الكهوف عن حيرته، وعن غموض هذا العالم، وفيما بعد اتسعت دائرة التعبير حينما عرف الكتابة وتعددت اللغات واللهجات والهويات التي انبثقت من الهوية الآدمية الأولى. ومن هنا أؤمن بأن السرد حسب الفيلسوف الأسكتلندي «ألاسدير ماك أنتيَر» هو الجنس الأدبي الأساسي والجوهري لتوصيف أفعال الإنسان، وأضيف أنه أيضا بات مؤخرا الأكثر قدرة لنا دارسين ومتلقين على فهم البنية الداخلية وعلاقتها بالمعمار الخارجي للإنسان أيضًا، ليس فقط اتكاء على أدوات ما اصطلح على تسميته بسيكيولوجيا السرد، إنما أيضا انتهاجًا لتمخضات التلقي الانطباعي. فنحن إما نكتب متتبعين وجودنا في إيقاع التاريخ وانعكاساته علينا، أو نعاين الحاضر كون السرد من جهة أخرى حلقة وصل بين الثقافة والعقل، وإما نستشرف المستقبل سواء خروجًا على الواقع أو تأصيله كتاريخ مؤجل. وأمام هذا المفهوم للسرد تحضر الهوية وسؤالها ومدى قدرة السرد على التعبير عنها، وترسيخها خاصة في مرحلة ما بعد الحداثة التي سعى منظروها وأساطينها لإلغاء المراكز وجعلت الفرد مركزًا بحد ذاته نتيجة للطروحات الجديدة في تفتيت الهويات وإرضاخ إنسانها إلى هوية عالمية لا ملامح لها غير ملامح السوق الجديد وإفرازاته.
ولعلنا نتساءل مرة أخرى عن قدرة السرد على المواجهة، خاصة ونحن نلمس هذه الأيام صعودًا جديدًا لشكل جديد من الشعبوية، وتعالي أصوات اليمين المتطرف عالميًا، وعودة بعض القوميات للمزاحمة رغم أن العنوان الأبرز والذي أعقب انهيار الاتحاد السوفييتي هو الديمقراطية، والتي تمخض عن تعالي المناداة بها، ظهور ثقافة حقوق الإنسان لكن بإيقاع سياسي خفي اختبأ وراء الثقافي. ومن باب السرد الواسع تكاد الرواية أن تكون أكثر الأجناس السردية اهتمامًا بالهوية سواء كان هذا بوعي مسبق أم نتيجة للسياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي يعيشها على حد سواء منتج النص السردي، ومتلقيه.
قلت في مقالة سابقة أنه حينما قام عدد من القراء الإنجليز برحلة جماعية إلى مصر كان الغرض منها تتبع الأمكنة والحيوات التي رأوها في روايات نجيب محفوظ والمترجمة إلى اللغة الإنجليزية، لم يكن هذا التتبع كما تطرقت له الصحافة العربية آنذاك مجرد تتبع جمالي للأمكنة والمزاج الشعبي في الحارات والزقاق التي استلهمها محفوظ آنذاك في أعماله الروائية، بل كان برأيي معاينة غير مباشرة للهوية المصرية العربية. وهنا ربما يتساءل البعض عن عنصرين مهمين من عناصر الهوية ومكوناتها فكيف أثرت كل ذلك التأثير بالقارئ الإنجليزي والذي قرأ تلك الروايات بلغة غير اللغة الأصلية التي كُتبت بها.
لا شك في أن اللغة هي أهم عناصر الهوية من حيث قدرتها على معاينة إيقاع الإنسان وأحلامه وطموحاته ووجودة ككائن يتميز عن غيره بسمات ما، ويلتقي مع غيره بسمات أخرى، لكن السرد لا يتألف فقط من العنصر اللغوي بل يتكئ أيضًا على قدرة السارد على مقاربة روح الإنسان ومكانه وزمانه، وكل ما يؤثر سلبًا وإيجاباً على هذه المرتكزات الثلاث؛ فالترجمة لروايات محفوظ لم تلغ تأثير أماكن الرواية وروح شخوصها وخصوصية أزمنتها بل على العكس فقد دفعت بأولئك القراء بأن يعيشوا ما عاشوه في فضاء تلك الروايات.
من المَحلية انطلق محفوظ إلى العالمية وحاز على جائزة نوبل للآداب وما كانت تلك الانطلاقة سوى الاهتمام الواعي بالهوية والرهان عليها في مرحلة كانت تمور بكثير من الأحداث والتقلبات وقف محفوظ أمامها بكل مصادره الثقافية، ووعيه وأحلامه متخذًا دورًا مهمًا ومؤثرًا في تلك المرحلة، بل ما يزال تأثيره حتى هذه اللحظة.
إن المتابع لمنجز محفوظ الروائي سيجد حتماً أنه لم يكن خارج سياق عوالمه التي عاشها؛ إذ كان وفيًا لهويته التي أبرزَها روائيًا عبر حضور المكان والإنسان المصري، عبر عدة مراحل سياسية واجتماعية وثقافية مصرية.
وتجلت الهوية سرديًا في كثير من الأعمال الروائية العربية بكل مراحلها الواقعية و الحداثية وما بعد الحداثية، ومن الجدير بالذكر أن ما من نص سردي روائي يخلو من ملامح الهوية كونها الأساسي الذي لا يمكن تجاوزه، لكن هنالك أعمالًا روائية تميزت عن غيرها باهتمامها الكبير بهذا الشأن، وموسم الهجرة إلى الشمال يعد من النماذج الروائية العربية المهمة على مسألة الهوية العربية وعلاقتها بالهويات الأخرى، فقد كتبت هذه الرواية في الستينات حيث كان العالم العربي يخرج للتو من حقبة استعمارية خطيرة وأمامه حلم كبير للتخلص من مخلفات ذلك الاستعمار العسكري إذ برزت الهوية مهددة و مصابة بما جرته عليها تلك المرحلة، المخلفات التي رآها الطيب صالح جرثومة يجب الخلاص منها. وقد تم معاينة الهوية في موسم الهجرة إلى الشمال عبر ثلاث شخصيات رئيسية كانت تشكل الصراع حيال هذه المسألة: الجد الذي عاش مرحلتي ما قبل الاستعمار وما بعده، والراوي الذي عاش مرحلة ما بعد الاستعمار فقط، ثم شخصية مصطفى سعيد الشخصية الأكثر جدلًا والتي عاشت وعاينت الصراع بين الشمال والجنوب.
برزت الهوية في أعمال غالب هلسا الروائية ضمن محورين واحد موضوعي يتطرق إلى الفضاء العربي العام بكل هزائمه في تلك المرحلة التي عاشها، ومحور ذاتي يستلهم أزمته كروائي ومثقف لم يتسن له أن يقيم في بلاده، وبالتالي بقي دائم الترحال بين البلاد العربية متمرداًا ومؤمنًا بأفكاره. وقد تميز المحور الذاتي فيما يخص الهوية عند هلسا بتلك الحنينية الفردوسية للأشياء الأولى التي شكلت هويته: مسقط الرأس ماعين، البيت الأول، المدرسة الإعدادية في مادبا، مدرسة المطران في عمان، والفضائين الاجتماعي والسياسي اللذين عاشهما آنذاك؛ إذ تشكل مرحلة الطفولة بكل تفاصيلها وأحلامها وأمكنتها جزء مهمًا من المكون العام للهوية وتبقى الشرفة الأكثر ارتدادًا إليها عند كثير من كتاب السرد وخاصة الرواية، وهذا ما ظهر عند غالب هلسا الذي ولد عام 1932 في قرية (ماعين) جنوب (مادبا). وغادر الأردن عام 1956 ولم يعد إليه إلا ليدفن في (18 كانون الأول/ ديسمبر 1989(. وما بين هذين التاريخين، بل لنقول ما بين هذا التاريخ الذي قُسم إلى ثلاثة أقسام وأنجز غالب فيها رواياته الإشكالية وهو يتنقل بين العواصم العربية، بقي دائم الارتداد الاستعادي للطفولة، زمن تجلى بشكل قوي في روايته (سلطانة)، وبقي دائم الحضور في روايته الأخرى التي كتبها في القاهرة، «الضحك» (1970)، و«الخماسين» (1975) و«السؤال» (1979)، و«البكاء على الأطلال» (1980)، وحتى في «ثلاثة وجوه لبغداد» (1984)، و«الروائيون» (1988) التي ينتحر فيها بطل الرواية غالب، مصابًا بخيبة أمل كبيرة حيال العالم.
رغم أن غالب هلسا عاش لإثنين وعشرين سنة في القاهرة وعاش حقبة مهمة من حقبها، وكان يتحدث اللهجة المصرية، ويستخدم هذه اللهجة في حوارات شخصياته ذات الفضاء والوعي المصريين إلا أن فضاء طفولته وجزءا من سنين شبابه في (ماعين) تبقى تظهر بشكل يفاجئ المتلقي غير المطلع على حياة غالب، والذي ربما يحار أمام هذه الاستعادة وربما يجدها غير مبررة روائيًا. إن ما حدث لغالب هلسا أمر لا ينفصل عن قلق الهوية التي عاشها، رغم أنه ماركسي ينفتح على الإنسانية جمعاء، لكن مسقط الرأس بكل تجلياته وانعكاساته كان دائم الإلحاح عليه، ومن هنا يمكنني أن أجد سر تعلقه بـ(غاستون باشلار) وبالتالي ترجمته ومقدمته المهمتين لكتاب باشلار (جماليات المكان). حيث بقي غالب دائم الوعي والاهتمام والحنين لتلك العوالم رغم انشغالاته فيما يكتب روائيًا.