الفلسطينيون يسعون لضم “أقدم مدينة على وجه الأرض” إلى لائحة التراث العالمي
المار المتعجل من الجانب الشمالي الغربي من مدينة أريحا (على بعد 2 كم من مركز المدينة الهادئ) سيسير بجانب تلة صغيرة تبلغ مساحتها فدانا واحدا، وسيخالها الزائر عبارة عن حجارة وأكوام من الرمال الصفراء التي تكونت على مدى آلاف السنين، لكن المدقق قليلا في المكان سيجد هذه التلة التي تحمل اسم “تل السلطان” تقدم له “أقدم مدينة على وجه الأرض”.
وأظهرت الاستكشافات الأثرية التي قامت بها عالمة الآثار البريطانية د. كاتلين كينيون وجود مستوطنات تعود إلى 9000 سنة قبل الميلاد.
وقيمة هذه الفترة الزمنية، بحسب كينيون، وهي التي عملت في فلسطين لأكثر من 30 عاما، هي أنها تحدد فترة الانتقال من البداوة إلى الاستقرار الزراعي.
ويقع تل السلطان، بحسب موقع وزارة السياحة والآثار الفلسطينية، في الجزء السفلي من سهل وادي الأردن على بعد 10 كم إلى الشمال من البحر الميت، أي على انخفاض 250م تحت مستوى سطح البحر الأبيض المتوسط.
مكان و23 حضارة
نحن هنا، نتحدث عن “تل السلطان”، أو ما يعرف باسم “أريحا القديمة”، التي يعتقد أن هذا الموقع الأثري المهم يضم بقايا لـ 23 حضارة قديمة قامت بالبناء في هذا الموقع.
يجود الموقع بالعديد من الهياكل القديمة الواضحة للعيان، فهو يقدم أول نظام درج في العالم، وأقدم حائط أيضا، وأقدم برج دائري للدفاع في التلة، حيث يعود البرج إلى 7000 سنة قبل الميلاد وهو موجود في وسط الموقع.
هذه الاكتشافات جعلت من مدينة أريحا أول مدينة محصنة في التاريخ، وتعود آخر سلالة قامت بالاستيطان في هذا الموقع إلى العصر البيزنطي والعصر الإسلامي الأول.
وبتسليم سفير دولة فلسطين لدى اليونسكو في باريس منير انسطاس ملف أريحا القديمة/ “تل السلطان” الى مدير مركز التراث العالمي في اليونسكو تكون أبرز خطوة لإدراج الموقع ضمن لائحة التراث العالمي قد بدأت.
وبحسب تصريحات السفير انسطاس فإن وفد دولة فلسطين الدائم لدى اليونسكو سيتابع حركة هذا الطلب، وسيواصل العمل المباشر مع مركز التراث العالمي في اليونسكو وفي الضغط الممكن لتسريع التعامل معه وإنجاز ما هو مطلوب لصالح اتخاذ القرار المناسب واعتماده كموقع فلسطيني آخر، يضاف الى قائمة المواقع الفلسطينية التي نجحت دولة فلسطين في اعتمادها رسميا على لائحة التراث العالمي.
وكانت وزيرة السياحة والآثار رُلى معايعة وقعت قبل أيام على النسخ النهائية من ملف ترشيح موقع “أريحا القديمة – تل السلطان” لإدراجه على لائحة اليونسكو للتراث العالمي بحضور طاقم التراث العالمي في الوزارة.
وبحسب الوزيرة فإن الأهمية العالمية والاستثنائية لأريحا القديمة (تل السلطان) تتمثل في كونها أقدم مدينة محصنة في العالم تعود الى العصر الحجري الحديث (8350-7000 ق.م)، ففي تلك الفترة كانت المدينة محصنة بسور دفاعي ضخم وبرج دائري وخندق مقطوع في الصخر، ويحتوي البرج على مدخل وبهو مسقوف ودرج داخلي يتكون من 22 درجة يقود الى قمة البرج (وهو أقدم درج مبني في العالم).
وبحسب إياد حمدان مدير مكتب وزارة السياحة والآثار في أريحا فإن “هذه المنشآت تمثل إنجازا معماريا فريدا لا يوجد لها مثيل في العالم خلال تلك الفترة”.
وتعتبر أريحا القديمة أيضا من أهم مواقع العصر الحجري الحديث في العالم التي تمثل مرحلة الاستقرار البشري وبداية الزراعة وتدجين الحيوان وتصنيع الفخار، وتطور مواد البناء وخاصة استخدام الطوب والجص والفنون، وتطور نمط البناء والذي شهد التحول من بناء البيت الدائري الى البيت المربع والمستطيل.
ويبدو أن أريحا القديمة كانت مركزا دينيا رئيسا في العالم القديم لعبادة الأسلاف، تم الاستدلال عليها من خلال مجموعة من الجماجم المغطاة بالجص وأحيانا ملونة بالطلاء عثر عليها مدفونة تحت أرضيات المنازل. وتشير هذه الإنجازات الحضارية في أريحا القديمة الى تطور أحد أقدم الأنظمة الاجتماعية والسياسية والإدارية والاقتصادية في العالم إضافة الى شبكة العلاقات التجارية مع مناطق العالم القديم خاصة مع مناطق الأناضول، وبلاد ما بين النهرين ومصر القديمة حيث ساعدت في تبادل القيم الثقافية والدينية والتطورات المعمارية ونشرها.
ويوجد في منطقة التل نبع ماء قديم يعتبر الأكثر عذوبة في المنطقة، ويرتفع حوالي 25 متراً عن سطح البحر، حيث يبلغ إنتاجه من المياه حوالي 700 متر مكعب في الساعة، وهو ما جعله من أهم ينابيع أريحا.
عام ونصف من التحضير
وتشير الوزيرة معايعة إلى أن طاقم التراث العالمي في الوزارة قام بإعداد الملف على مدى عام ونصف بالتعاون مع طواقم بلدية أريحا ومندوبية فلسطين الدائمة لدى اليونسكو وطواقم مديرية السياحة والآثار في أريحا، وطواقم الإدارة العامة للشؤون المالية والإدارية ونخبة من الخبراء المحليين والدوليين.
ووفرت منظمة اليونسكو منحة مالية من خلال صندوق التراث العالمي غطت جزءا هاما في إعداد الدراسات العلمية اللازمة لتحضير الملف.
وبحسب المعلومات التي يوفرها موقع وزارة السياحة والآثار الفلسطيني فقد ورد ذكر مدينة أريحا القديمة في العديد من المصادر التاريخية، وتشير اللقى من الحفريات الحديثة في الموقع إلى أن اسمها قد نقش على أختام (جُعران) من الألف الثانية قبل الميلاد من العصر البرونزي الوسيط (الفترة الكنعانية).
وكشفت الحفريات المتعاقبة في الموقع عن تاريخ حضاري يمتد نحو 10 آلاف سنة. وتعود أقدم هذه الآثار إلى الحضارة النطوفية (10-8 آلاف سنة قبل الميلاد)، وتتكون من أدوات صوانية، والتي تدل على وجود سكن نطوفي بالقرب من عين السلطان. وتظهر أقدم البقايا من العصر الحجري الحديث في مستوطنة صغيرة فيها بيوت مبنية من الطوب المصنوع من الطين، وأحيطت المستوطنة بسور وبرج دائري، وهي أقدم نموذج محفوظ لأنظمة التحصينات.
دور أريحا التاريخي
ويؤكد الموقع أن أريحا لعبت دورًا رئيسًا في المراحل المبكرة من انتشار المسيحية. وتركز السكن خلال الفترة الهيلينستية المتأخرة حتى بداية الفترة الرومانية في موقع تلول أبو العلايق المعروف باسم القصور الهيرودية، وبُنيت في الموقع مجموعة من القصور والمنشآت متعددة المرافق، وانتقل الموقع الإداري خلال الفترة الرومانية المتأخرة وبداية الفترة البيزنطية إلى منطقة أريحا الحديثة.
وقد ورد ذكر أريحا في العديد من المصادر التاريخية، بما في ذلك خارطة مادبا الفسيفسائية التي تعود إلى القرن السادس الميلادي، وأشير لمدينة أريحا من خلال صورة الكنيسة وشجرة النخيل، إضافة إلى نقش القديس اليشع، وتظهر الخارطة محيط المدينة الجغرافي الذي يشتمل على كل من نهر الأردن والبحر الميت.
وكشفت الحفريات الأثرية في القرن الماضي عن بقايا أثرية في العديد من المواقع الواقعة داخل مركز مدينة أريحا التاريخية الحديثة والتي تلقي الضوء على تاريخها خلال الفترة البيزنطية. كما تمّ العثور على عدد كبير من الكنائس من الفترة البيزنطية في محيط المدينة، بما في ذلك المكتشفات من تل الحسن والكنيسة القبطية وكنيسة الأب افتيميوس الأرثوذكسية اليونانية وخربة عين النتلة.
كما عُثر في العام 1962 على بقايا بيزنطية تشمل أرضية من الفسيفساء الملونة.
أما أثناء أعمال بناء المتحف الروسي في أريحا عام 2010 فقد جرت حفريات إنقاذية في المنطقة بإشراف وزارة السياحة والآثار الفلسطينية ومعهد الآثار في أكاديمية العلوم الروسية، حيث كشفت البعثة عن المزيد من البقايا المعمارية بما في ذلك أرضية من الفسيفساء التي عثر عليها خلال عمليات التجريف، وكشف عن سلسلة من المباني التي يعود تاريخها إلى أوائل الفترة الرومانية والبيزنطية والأموية والعصور الوسطى والفترة العثمانية.
يذكر أن مدينة أريحا نالت قبل أشهر لقب أكبر لوحة فسيفساء في العالم بعدما افتتحت في قصر هشام أكبر مساحة فسيفسائية مفتوحة حيث تصل لحوالي 827 مترا مربعا وتحتوي على 38 سجادة فسيفسائية بأكثر من 21 لونا فلسطينيا تعبر عن هوية الشعب الفلسطيني من كل مناطقه الجغرافية.