«رسائل الزنازين» … شهادات عن أوضاع المعتقلين في مصر
عربي تريند_ لا تحكي الرسالة التي تخرج أو تهرب من أحد السجون مأساة صاحبها فقط، بل تحكي بين طياتها تفاصيل يعيشها الكثيرون داخل زنازين مغلقة، بعضهم فقد الأمل في الخروج من السجن، وآخرون يتمسكون بحقهم في الحياة.
آخر هذه الرسائل نشرها أسرة وأصدقاء مطور المواقع المصري مصطفى جمال، المحبوس منذ أربعة أعوام في السجن، وقد اشتكى فيها من ظروف حبسه الذي وصفه بـ”القبر”.
وقال مصطفى جمال في رسالته: “أكثر من 46 شهراً محبوساً احتياطياً في أعماق السجون بدون محاكمة، فقط أخرج من قضية، وتكون في انتظاري قضية جديدة كجولة استثنائية تدور في فلك من العشوائية والعبثية، لتعيد إنتاج محور آخر أكثر حزناً وبؤساً من جديد، وأبدأ بجولة أخرى أستجمع فيها ما تبقى من قوة مهدورة، ويضعونني في قبر سجن بلا حياة.”
وأضاف “لم أكن يوماً على علاقة بأي نشاطٍ سياسي، فقط أحب عملي ودراستي، أصبحت بين ليلةٍ وضحاها متهماً بالانضمام لجماعةٍ إرهابية، بسبب أغنية لم أشترك بها، فقط قمت في عام 2015 بتوثيق صفحة المغني رامي عصام على فيسبوك (العلامة الزرقاء التي توجد بجوار اسم الصفحة) قبل إصدار الأغنية بثلاث سنوات، منذ ذلك الحين لم أتواصل مع المغني أو مع أي فرد من فريق العمل الخاص به، بالإضافة أن اسمي غيرُ موجود على الأغنية، ولم يتم من خلالي نشر منشورات على هذه الصفحة، ذلك مثبت من خلال جميع الحسابات والأجهزة الخاصة بي”.
«الثقب الأسود»
وتابع “توقفت حياتي عند هذا الثقب الأسود الذي تشابهت فيه الأيام والسنين، ثقبٌ ضاع فيه مستقبلي وأحلامي، وانهارت عنده كل قواعد المنطق. ساءت أحوال والدي الصحية بعد دخولي السجن، كنت أرى ذلك في كل زيارة تلو الأخرى، فلقد سيطر عليه المرض وغطى الشيب رأسه، وكنت أرى دائماً ملامح العجز التي هيمنت عليه، بالرغم من اعتيادي على رؤية والدي قوياً طوال عمره ولم أر ذلك العجز في عينيه يوماً ما”.
وزاد: “كان خبر وفاة والدي كصاعقة أنهكت قواي. لم أتحمل الألم، فقدت عمري حينها، كل ما تمنيته أن أكون بجواره في مرضه، فلم أستطع حتى أن أكون معه في دفنه، وكل ما أفكر فيه الآن بعد أكثر من 18 شهراً من موتِ أبي، أنني عاجز حتى عن زيارته في قبره إلى الآن، وما زلت رافضاً لفكرةِ موت أبي ولم اعترف بها. أعلم جيداً أنني عندما أخرج من ذلك المكان سوف أجده جالساً في المنزل ينتظرني كما وعدني”.
وتابع في رسالته “ترك أبي وراءه أمي وأختي، ولا أستطيع أن أكون بجانبهما، أو أخفف عنهما فراقي وفراق والدي. لم أر أمي سوى مرة واحدة منذُ ذلك الحين الذي مات فيه أبي، بسبب عناء السفر الذي تواجهه كل زيارة، لأنها تعيشُ بعيداً عن السجن، ولكثرةِ المتاعبِ التي تواجهها بمفردها بعد موت أبي، فأصبحت وحيداً. لا أهل ولا أصدقاء ولا حياة، فقط أعيش مفقوداً تحت الأنقاض، وكأنه لن يأتي أحدهم لإنقاذي، وكأني لن أعيش مرة أخرى. الوحدة هي الصديق الوحيد الذي يلزمك ولا يتركك، ومع مرور الوقت يسلب روحك وينتصر، ليظل الصديق الأقرب الذي يجد طريقةً ليقتلك” .
«كم أكره هذا الصباح»
واستطرد مطور المواقع “كم أكره أن أسمع اسمي في هذا المكان، وشعوري الدائم بالانتماء للسجن الذي يجعلني دائماً ساخطاً على حياتي، ورافضاً الاعتراف بأن كل هذا حقيقي. أفزع دائماً كل صباحٍ، عندما يفتح السجان باب الزنزانة بإعلانِ يومٍ جديد في هذا المكان. كم أكره هذا الصباح. دائما أهرب من هذا الكابوس الذي يلاحقني بالنوم، لأجد كابوساً أكبر منه في أحلامي، فلا أجد منفذاً للخروج من هذا العناء. لم يكن الحبُ يوماً لمسلوبي الحرية. أتعاملُ مع السجان كونه فرداً من عائلتي، أتقاسم معه الطعام، أقوم بعلاجه إذا مرض، نتكلمُ عن أحزاننا معاً، عن أخبارِ العالم وما يحدثُ خارج هذه الزنازين، بعدها يختتمُ كلامه بالدعاءِ لي بالخروجِ من هذا المكان ويغلق بعدها باب الزنزانة”.
وتابع “سألني أحدُ السجانين ذات مرة: إيه أحلامك لما تطلع من هنا يا مصطفى؟ عندها تذكرت ذلك الحلم الذي لم أعد أفكر فيه منذ حبسي، إنني أحلم أن أصبح مذيع راديو، وأنني كنتُ أحلم أيضاً بأن أعمل في شركة فيسبوك ذات يوم، وأنني سأكون من أكبر منظمي الحفلات في مصر. أنا تقريباً كنت نسيت أحلامي يا عم محمد، بس أعتقد حلمي الوحيد دلوقتي إني أحضن أمي فقط”.
واعترف مصطفى في رسالته وهو على مشارف عامه الخامس في السجن أنه ما “زال مدمناً للحرية لم يتعاف بعد، وما زال محتفظاً بإنسانيته ما بين حائطِ الأمل والهزيمة ينعى صبره ويقتل فيه الأمل بصمت”.
وتساءل: “كم من الوقت نحتاجه لاستعادة قوتنا وقدرتنا على الحياة، الوقتُ أقسى من الذكرى التي تسكن فينا، إنه يمرُ لأنه لا بد له أن يمر دون توقفٍ ودون رحمة، يعرفُ جيداً طريقه نحو الوجع والكسرة. فقط، أستسلم لرائحةِ الموتِ وأبقى في مستنقع قبر أحزاني. فالسجنُ يقتُلنا وعندها يكون الموت ليس نهاية الحياة، ففي هذا المكان لا تفقد حريتك فقط، وإنما تفقد إيمانك بنفسك، وحبك للحياة، وشغفك بالآخرين، ويصبح ذلك القفص الذي حولك من كل الجهات نسيجاً من جسمك. فيتبقى دائماً إحساسي بالخوف الدائم وغير المبرر من فقدانِ الأمل، والشعورِ بالصدمة والاكتئاب”.
تحدث مصطفى في رسالته عن تدهور أحواله الصحية والنفسية، وقال: “بدوت للمرض كفريسة تستقي بها ما تشاء كل يوم، ثقل لساني، وتدهورت حالة عيني، بالإضافة لاضطراب في ضربات القلب وغيرها من الأمراض التي تصيبني ولا أستطيع أن أتحملها”.
وزاد: “لم يعد لدي أيّ شيء أخسره، لقد تخلى عني الجميع، وتهتُ في زحام النسيان والموت الاحتياطي المطول وغير المبرر. هذا ما دفعني في محاولتي لأذية نفسي سابقاً، رغبةً مني بإنهاء هذا الموت الذي أعيشه، وإيماناً مني بحياةٍ أفضل بعيداً عن هذا العالمِ الظالمِ الذي لا يرحمُ أحد”، متحدثاً عن محاولته الانتحار سابقاً”.
وألقي القبض على مصطفى جمال، مطور مواقع، في 1 مارس/ آذار 2018 لاتهامه في القضية رقم 480 لسنة 2018 أمن دولة بالاشتراك في فريق عمل أغنية التي أداها المغني رامي عصام بالتوازي مع الانتخابات الرئاسية، وهي القضية التي كان المخرج شادي حبش محبوساً على ذمتها قبل أن يتوفى في السجن بعد مرور مدة الحبس الاحتياطي ولإهماله طبيًا.
وجاء تدوير جمال بعد حبسه عامين وأربعة أشهر، بالمخالفة للقانون والذي ينص على أن الحد الأقصى للحبس الاحتياطي عامان، وبعد وفاة صديقه المخرج شادي حبش في السجن في الأول من مايو/ أيار 2020.
وتعرض مصطفى لعدد من الانتهاكات منذ القبض عليه، فبعيداً عن تدويره في قضية أغنية “بلحة” تعرض للإخفاء القسري في مقر جهاز الأمن الوطني في الشيخ زايد، لأكثر من شهر ونصف منذ إخلاء سبيله بداية شهر يونيو/ حزيران 2018. هذا فضلاً عما تعرض له منذ القبض عليه في مارس/ آذار 2018 وهو إخفاؤه لمدة 4 أيام في مقر نفس الجهاز، الأمن الوطني، وتعرضه للتعذيب والاستيلاء على هاتفه وحاسوبه.
رسالة أخرى نشرتها صفحة شادي حبش، قبل وفاته، بأشهر في السجن.
وألقي القبض على شادي في مارس/ آذار 2018 بعد إخراجه أغنية ساخرة بعنوان “بلحة”، وكتب رسالة في سجنه يوم 26 أكتوبر/ تشرين الثاني 2019
وكتب حبش في الرسالة: “السجن لا يتسبب في الموت لكن الوحدة تموّت. أنا أحتاج دعمكم”.
وتابع:” في السنوات الماضية، حاولت مقاومة كل ما يحدث حتى أخرج من السجن نفس الشخص الذين تعرفونه”.
وعن مفهوم “المقاومة” كتب: “تقاوم نفسك وتحافظ عليها وإنسانيتك من الآثار السلبية التي تعيشها كل يوم وأبسطها إنك تتجنن أو تموت ببطء، لكونك محتجزا في غرفة منذ سنتين، ولا تعرف متى ستخرج”.
وأشار إلى أنه “كانت تحدد له جلسة كل 45 يوما، يتم فيها تجديد حبسه، من دون النظر إليه أو النظر في أوراق القضية.”
الناشط المصري المسجون، المُدرج على قوائم الإرهاب، علاء عبد الفتاح، وجه كذلك رسالة لوالدته، اشتكى فيها ظروف حبسه وبُعده عن أسرته.
ووفقا للرسالة التي نشرتها شقيقة الناشط، منى سيف، فقد عبّر عبد الفتاح عن خوفه من أن يقضي ما تبقى من عمره خلف قضبان السجن “دون داعٍ ولا سبب”.
ولفت في رسالته إلى صعوبة بعده عن طفله الذي وُلد في غيابه، ممتعضا من أنه لا يتمكن من رؤيته سوى 20 دقيقة فقط كل عدة أشهر.
وتحدث الناشط عن الطريقة التي يقضي بها وقته قائلا: “محتجز 24 ساعة، لا أمارس أي فعل أو نشاط ذهني.”
ولفت إلى أن “سلطات السجن كانت قد وضعته في الحبس الانفرادي، قبل يوم من كتابة رسالته، دون عرضه على المحكمة.”
وكان علاء عبد الفتاح هدد بالانتحار خلال عرضه على النيابة في سبتمبر/ أيلول الماضي، قائلا: إنه يرى أن هناك نية لبقائه في السجن مدى الحياة.