لبنان إلى مرحلة انزلاق جديدة وسط انسداد أفق الخروج من مأزق القطيعة الخليجية
عربي تريند_ لم تترك المملكة العربية السعودية قرارها حول لبنان في دائرة التفسير المُلتبس. كان كلامها واضحاً على لسان وزير خارجيتها فيصل بن فرحان آل سعود وفي بيان الخارجية حول سحب سفيرها والطلب من السفير اللبناني مغادرة بلادها. قال بن فرحان لقناة «العربية» إنه «ليس هناك أزمة بين السعودية ولبنان، بل أزمة في لبنان تكمن في هيمنة وكلاء إيران على النظام السياسي». وبدا أكثر وضوحاً في الخلاصات مع قناة «سي.أن.بي.سي» الأمريكية، حين اعتبر أنه «مع استمرار سيطرة حزب الله على المشهد السياسي، ومع ما نراه من امتناع مستمر من الحكومة الحالية والقادة السياسيين اللبنانيين عامة عن تطبيق الإصلاحات الضرورية، والإجراءات الضرورية لدفع لبنان باتجاه تغيير حقيقي، توصَّلنا إلى خلاصة بأن التعامل مع لبنان وحكومته لم يعد مثمراً أو مفيداً، ولم يعد في مصلحتنا».
طفح كيلُ الرياض. بلغ الاختلالُ في التوازن السياسي الداخلي حد التسليم اللبناني بسقوط الدولة بيد «حزب الله» في قرارها الاستراتيجي والسياسي، وفي كل مفصلٍ من مفاصل مؤسساتها وأجهزتها. ثمّة اندماج للدولة في الدويلة. فحيث لا تصل يد «الحزب» مباشرة يتمُّ الاتّكاء على الدولة للقيام بالمهمة. هذا واقع يعرفه القاصي والداني في لبنان، بحيث يتمُّ «قضم الدولة» تحت أعين قواه السياسية المتوزّعة بين: متحالف، ومتواطئ، وصامت، وخائف، ومتفرِّج، ومُنتظر، وفي النتيجة تحوَّل القرار بكليته إلى «حارة حريك» في الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث مقر الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصر الله؛ فمن هناك تُدار البلاد، وليس من مقرَّات المؤسسات الدستورية، سواء في قصر بعبدا مقر رئيس الجمهورية، أو السراي الكبير مقر رئاسة الحكومة، أو حتى «ساحة النجمة» حيث البرلمان، والذي يُمسك بزمام رئاسته شريك «الحزب» في «الثنائية الشيعية» نبيه بري، وصولاً إلى «اليرزة» مقر وزارة الدفاع، وإلى كل وزارة وإدارة وجهاز. يبقى ثمّة هامش لهذا أو ذاك، لكن لا يعدو أكثر من كونه لعب في الوقت الضائع.
والأمثلة على ذلك كثيرة، وأبلغها تعبيراً، رفض لبنان الانضمام إلى الإجماع العربي والإسلامي في إدانة إحراق سفارة المملكة في طهران وقنصليتها في مشهد التي وقعت في شباط/فبراير 2016، على خلفية إعدام الرياض لرجل الدين السعودي الشيعي المُعارض نمر النمر. يومها ردَّت السعودية بوقف مساعداتها لتسليح الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي بنحو أربعة مليارات دولار، واعتبرت أن «حزب الله» يُصادر إرادة الدولة. يومذاك كان حليف «حزب الله» جبران باسيل وزيراً للخارجية، وكان «الحزب» يُعطّل انتخابات رئاسة الجمهورية لفرض ميشال عون رئيساً، الأمر الذي يستوجبُ بالضرورة التماهي الكامل مع «محور إيران» بمعزل عما تقتضيه مصلحة لبنان والقوانين الدولية والأعراف الدبلوماسية. في ذلك الحين، ميَّـزتِ المملكة بين موقف الشعب اللبناني وموقف من يُصادر القرار الرسمي في حكومة تمام سلام التي كانت تُدير البلاد في ظل الفراغ الدستوري في سدّة الرئاسة.
يومها خرجَ تمام سلام ليُعلن عن قرار بالإجماع لمجلس الوزراء بضرورة إصلاح العلاقة مع المملكة وتكليفه بذلك. مرَّت أشهر، فإذا بتسوية رئاسية تُفضي إلى انتخاب عون رئيساً للجمهورية وسعد الحريري رئيساً للحكومة في تشرين الأول/أكتوبر 2016. وبمعزل عن التفاصيل، عُـبِّدتْ طريق عون إلى بعبدا من خلال توفير رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع الغطاء المسيحي، بعد المرجعية المارونية، التي حَصَـرَتْ مرشحي الرئاسة بأربعة أقطاب موارنة هم: عون، وجعجع، وسليمان فرنجية، وأمين الجميل، وإن هذه التسوية ما كانت لتحصل لولا موافقة «حزب الله» عليها.
في لحظة التحوُّل، قال الحريري إنه يقوم بمغامرة سياسية، وأظهرت التطورات التي تلت لاحقاً أنها كانت فعلاً مغامرة، لا بل خطأ سياسي دفع لبنان ولا يزال ثمنه. ظنَّ الرجل أنه قد ينجح في أن يجعل عون يُمسك العصا من الوسط في ما يمكن اعتباره عودة التوازن السياسي أقله حيال القرارات الاستراتيجية والعلاقات الخارجية. وتمَّ إدراج الزيارة الخارجية الأولى لعون إلى السعودية على أنها إنجاز وبداية تصويب للانحراف السياسي، لكن سرعان ما ظهر عقم تلك الرهانات، وأخذت البلاد تغرق أكثر فأكثر في الفلك الإيراني، ترغيباً وترهيباً.
في القراءة السياسية لبعض حلفاء السعودية أنها تخلَّت عن لبنان، وهذا التخلّي هو ما أسهم في انحرافه، لكن تلك قراءة يردُّ عليها دبلوماسي سعودي بالسؤال: لنفترض أن ذلك صحيح، فماذا تفعلون أنتم لإنقاذ بلادكم؟ لقد تحوَّل لبنان إلى منصّة سياسية وأمنية وعسكرية لاستهداف دول الخليج، ومنصة مساندة للدول الحليفة للمحور، فيما الدولة اللبنانية تتفرَّج. عزَّز «حزب الله» سيطرته على مرافق البلاد التي تُوصله بالعالم، أَمسك أكثر بالمرفأ والمطار وبالمعابر البرية. يعلم بكل شاردة وواردة. له أعينه من رجال وموظفين في الأمن العام وغيرها من المؤسسات الأمنية، ولديه شبكة اتصالاته، وأجهزة وكاميرات مراقبة وتَنصُّت وتواجد ميداني. يتغلغل وينتشر كالفطر، ويحصل كل ذلك بمعرفة القيّمين على الدولة والطاقم السياسي، سواء الشريك المنتصر أو الشريك المتفرّج والمهزوم. لا يمكن العمل من دون متعاونين في أجهزة الدولة الإدارية، والقضائية، والأمنية، والاستخباراتية، والعسكرية، ولم يعد الأمر يتعلق فقط بقرار سياسي يمكن أن يتبدَّل إذا ما تبدَّلت ظروفه الإقليمية. هي الوقائع التي تُظهرها الأحداث، من تفجير مرفأ بيروت، إلى تهريب المخدرات، وعمليات تبييض الأموال، والتعامل الأمني والقضائي مع حوادث خلدة، وشويّا، وعين الرمانة، ومع كل حادث أمني تكون له علاقة بـ»الحزب» أو بـ»سرايا المقاومة» – الجهاز الذي يجمعُ في إطاره كل العناصر المسلّحة من غير جماعته الحزبية.
تُظهر التفاصيل حجم المأزق في ما يتعلق بواقع الدولة من داخلها. أما في مناطق سيطرته، فالأمور تذهب مباشرة إلى «حكم الدويلة»، حيث تتواجد القنوات الإعلامية لكل جماعات المحور، ومراكز الإعداد والتدريب اللوجستي لهؤلاء على مختلف المستويات، وأماكن تخرين الأسلحة والصواريخ، ومصانع الكبتاغون وغيرها. باختصار، أضحى لبنان المقرّ والممرّ لكل الحروب التي تُشنُّ على الخارج، وفي الخارج، مِن قِبل إيران ووكلائها وكل عمليات الاستهداف الاستخباراتي والأمني وضرب النسيج الاجتماعي فيها. والخارج يبدأ بسوريا، والعراق، واليمن، وغزة، ولا ينتهي في السعودية، ودول الخليج العربي، ومصر، والأردن.
فمِن هنا، تُشكّل المطالبة السعودية – والتي تلتفُّ حولها كل من الكويت، والإمارات العربية المتحدة، والبحرين – برفع «حزب الله» يده عن الدولة عنوان مواجهة حتمية. على الأقل هكذا ينظرُ إليها «حزب الله» الذي يخوض معركة منع وزير الإعلام جورج قرداحي من الاستقالة، بحيث إنه لا يخوضها فحسب في وجه السعودية ومِن ورائها الخليج، بل في وجه الداخل أيضاً، حيث إن هذا الوزير – الذي عُـيِّن من حصة الموارنة – يضربُ بقرار المرجعية المارونية التي طالبته بالاستقالة لتجنيب تداعيات الأزمة مع الخليج عُرض الحائط، وكذلك يتجاهل تمنّي رئيس الجمهورية عليه بالاستقالة الطوعية، ذلك أنه لا يرغب أبداً بالصدام مع «الحزب» والذهاب إلى خيار الإقالة.
استقالة وزير الإعلام هي إيذان بأن لبنان الرسمي راغب بأن يبدأ طريق المعالجات المحفوفة بالانتكاسات الدائمة ما دامت ليست معالجات جذرية تعود إلى أصل المشكلة اللبنانية، التي تتمثّـل باختلال التوازن الداخلي، والخروج عن الدستور، الذي ينصُّ على نهائية الكيان اللبناني، وعروبته، وعلاقاته الطبيعية مع محيطه، قبل أن يصل البحث إلى نظام المصلحة اللبنانية، وكل المطالعات عن خسائر لبنان من القطيعة الخليجية وارتداداتها على الاقتصاد، وعلى مئات آلاف المغتربين الموجودين في دول الخليج العربي.
ويبقى السؤال: هل مِن مخرج قريب؟ الجواب يبدو سلبياً، ذلك أن موازين القوى راهناً لا تصبُّ في مصلحة حدوث التحوّل المنشود. وهذا التحوُّل لا بدَّ من أن يحصل؛ أولاً، من رأس الهرم اللبناني المتمثل برئاسة الجمهورية التي شكّلت الغطاء، ولا تزال، لكل تعاظم دور إيران وأذرعها في لبنان؛ وثانياً، من رئاسة الحكومة التي يلجأ رئيسها إلى الاتّكاء على باريس وواشنطن لـلَجم تصعيد الخليج في وجه حكومته؛ وثالثاً والأهم، من المرجعية السُّنية الدينية والسياسية التي تُشكّل الثقل في العلاقة مع المملكة، والتي تُعاني من حالة إحباط وضعف ووهن وتشرذم، وتحتاج إلى القيام بمراجعة فعليّة، وإلى البدء بالنهوض والاستنهاض للعودة إلى لعب دورها الفعلي في صون الصيغة اللبنانية والكيان والدستور. وسيؤدي هذا النهوض إلى خلق جبهة لبنانية تَـشبكُ من جديد مع المكوّنات السياسية والوطنية الأخرى التي تُريد الخروج من واقع اختطاف لبنان.
يحاول الغرب، ولا سيما الأوروبيون وفي مقدمتهم الفرنسيون، وكذلك الأمريكيون، الهروب بالرهان على أن الانتخابات النيابية المزمع إجراؤها في شباط/فبراير 2022 يمكن أن تكون فرصة للتغيير. هو في حقيقة الأمر رهان خاطئ، ذلك أن الانتخابات إن حصلت وأعادت إلى الساحة نوعاً من التوازن السياسي الداخلي، فإن السلطة المنبثقة عنها لن يكون بمقدورها التعامل مع سلاح «حزب الله» الذي يتخطّى دوره كل شعارات «المقاومة» و»الردع» حماية للبنان، بل هو جزء من المنظومة العسكرية الإيرانية التي اخترقت المنطقة والتي تُدير حروباً فيها، والتي أشدّها اليوم هجوم الحوثيين في اليمن على مأرب واستهدافهم أمن المملكة ودول الخليج.
سيدخل لبنان في مرحلة انزلاق جديدة مفتوحة على كل الاحتمالات، وأخطرها وضع المكوّن الشيعي في مواجهة غالبية اللبنانيين الذين باتوا يطرحون سؤالاً جوهرياً: كيف وصلنا إلى هذا القعر سياسياً واقتصادياً ومالياً واجتماعياً؟ وستكبر الأسئلة في ظل انسداد الأفق الذي يبدو ظاهراً على مستوى السلطة الحاكمة من اتخاذ قرارات مصيرية، ما سيدفع بالسعودية، ومِن خلفها دول الخليج المتضامنة معها، إلى المضي في إجراءات إضافية ستكشف مدى هشاشة وعجز حكّام لبنان وقادته السياسيين عن إنقاذ بلادهم وشعبهم.