الكويت

إسماعيل فهد إسماعيل… صانعُ الرواية الكويتية

رحل الأديب الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل عن عمر ناهز 78 عامًا، تاركا بيننا إصدارات عديدة في الرواية والقصة والدراسة النقدية والفنية. وقد أجمع قراؤه على أنه استطاع أن ينتقل بفن الرواية الكويتية، والخليجية عامة، من حيز محاكاة الرواية العربية والغربية إلى حيز تأسيس الرواية لذاتها الفنية بالاتكاء على خصوصية معيش المواطن الخليجي، وثقافته وأحلامه وانفتاحه على أحداث عصره. وتقديرا لمكانته في خارطة الإبداع العربي، ننشر هنا آراء نقدية لمجموعة من الأكاديميين حول ما ميز كتابتَه ومنحَها إشعاعَها المحلي والعربي، وهم نجم عبدالله كاظم، الجامعي والناقد العراقي، وعلي العنزي، الجامعي وعميد المعهد العالي للفنون المسرحية في الكويت، وسعاد العنزي، الجامعية والناقدة الكويتية، وناصر الظفيري، الأديب الكويتي المقيم في كندا. والروائية الكويتية سعداء الدعاس والاكاديمية الكويتية دلال محمد جرخي.

نجم عبدالله كاظم: «كانت السماء زرقاء» جوهرة التاج الإبداعي

إذا ما شكلت روايات الكاتب الراحل إسماعيل فهد إسماعيل تاجاً إبداعياً له، فإن رباعيته، ولاسيما في جزئها الأول، رواية «كانت السماء زرقاء»، هي في رأينا جوهرة هذا التاج. بعبارة أخرى، مهما قدم الروائي من إبداعات وهي كثيرة وغالبيتها متميزة، فإن «كانت السماء زرقاء»- 1970- ستبقى دوماً إحدى الأعمال الروائية العربية المتميزة، خصوصاً في اشتراكها، مع «أنت منذ اليوم»- 1968- للأردني تيسير سبول، و»الوشم»- 1971- للعراقي عبد الرحمن مجيد الربيعي، في ريادة فنية في مسيرة الرواية العربية، متمثلة في قيامها كاملةً على تيار الوعي، حتى مع معرفة العرب لتقنياته خلال ما يقارب العشرين سنة السابقة على تلك الروايات، التي تشترك أيضاً في أنها تقوم ثيمةً على البطل المأزوم تأزماً مزدوجاً، سياسياً وانتمائياً، وذاتياً وسايكولوجياً. وفي هذا يكون طبيعياً أن تبقى هذه الرواية الأكثر إبهاراً بين روايات إسماعيل. بطل «كانت السماء زرقاء» عراقي ينضم إلى مجموعة هاربة باتجاه الحدود، لسبب غير صريح تماماً وإن جاء انضمامه أو هربه بعد انقلاب عسكري. المهم أنه يجد نفسه، بعد ذلك، مختبئاً مع ضابط جريح من الهاربين في أعقاب مهاجمة الشرطة لهم. وينطلق الكاتب من هذا الحيز المكاني والزماني المحدود ومن هاتين الشخصيتين، وعن طريق تقنيات تيار الوعي، والطريقة السردية أحياناً، نحو الفضاء الزماني والمكاني الأوسع، متنقلاً بين الماضي والحاضر، باستخدام (الفلاش باك)، وكل ذلك عبر دواخل الشخصية الرئيسة بشكل أساس، ليكشف عنها، فنعرف أنه غير منتم، ومع هذا فإن ما يجري في واقع السياسة في البلد لا يؤثر في السياسيين حسب، بل بغيرهم، وهنا يتداخل السبب السياسي، حتى وهو غير منتمٍ، والسبب النفسي الذاتي للفرد لينتج البطل المأزوم. فهو يجيب رفيقه الضابط حين يسأله: – هل أطاحت بك الثورة أيضاً؟ – لستُ سياسياً.. أنا هارب فقط. – ممن؟ – من كل شيء. ولهذا الـ(كل شيء) دلالته هنا. بقي أن نقول إن إسماعيل فهد إسماعيل يحقق، في روايته، مدخلاً ينطوي على الكثير من الجدة في الكتابة القصصية والروائية العربية، التي تتحقق من جانبين: الأول الموضوع، ونعني به معالجة قضية الإحباط، السياسي بشكل خاص، الذي أصبح سمة لواقع الوطن العربي في الستينيات، والمفارقة، مرة أخرى، أن هذا الواقع يطيح ببطل الرواية وهو ليس سياسيا. أما الجانب الثاني فيتمثل بالتقنية التي تركزت، كما قلنا، في استخدام تيار الوعي، الواضح التأثر بجيمس جويس، وربما بشكل أوضح بوليم فوكنر، في أسلوبه وحرفياته التي جاءت عليهما روايته الشهيرة «الصخب والعنف» التي كان جبرا قد ترجمها ونشرها سنة 1961. وفي النتيجة سُجل هذا لإسماعيل فهد إسماعيل إسهاماً في ريادة فنية في مسيرة الرواية العربية.

علي العنزي: قلمُه فتحٌ من فُتوح التجديد

لم يكن إسماعيل شخصاً عادياً، فقد كان روائياً وقاصاً متفرداً، أضاء طيفُه المشهدَ السردي بشهادة جميع الأدباء العرب، وخلفَ وراءه أعمالا، تضيء كالقناديل في أي عتمة. ولا يمكن لسلسلة مقالات أن تُلخص رحلة إسماعيل مع الأدب والحياة، ولكن يمكن القول إنه كان عبقرية حقيقية فريدة على مستوى السرد، كويتيا وخليجيا. انتمى إسماعيل إلى كوكبة من الروائيين العرب الذين أثروا في مسيرة الرواية والقصة القصيرة في الوطن العربي، ويُعَد قلمُه فتحاً من فتوح التجديد، تحولت به أعمالُه، إلى أسطورة لا إمام لها سوى العقل، فحاز شرفَ اعتراف أقرانه به من المحيط إلى الخليج. وفضلاً عن قيمته الأدبية التي ليست محل جدل، فإن أجمل ما ميز إسماعيل يكمن – في اعتقادي – في ذلك التناغم بين قيمه وأدبه، فقد كان نزيها، ووفياً لرسالته، وظل طوال حياته، أصلا ثابتاً على ناصية مبادئه، لم يذكر التاريخ أنه انحنى إلا وهو يكتب. عاش إسماعيل نزيها، ولم يذكر قط أنه مد يده، ولم يكن من ذلك النوع من الأدباء الذين يهتمون بالمكافآت، وكان على المستوى الشخصي، رجلاً لطيفاً مُحباً للضحك، يُنعش أي مكان يحل فيه، وأي شخص عرفه سيشعر بفقد شديد، وهو الذي أثر أدبه في أجيال، تعلمت منه أن الحياة أكثر تعقيدا مما يظن المرء. لم يكن إسماعيل موهوبا منذ صغره فقط، وإنما كان شغوفا بالعمل، حدد موقفه من الكتابة قبل أن ينشر قصصه ورواياته ومقالاته الأدبية؛ حيث لم يؤمن بالكتابة الرمادية بتاتاً وكان دوما صاحب رأي، حرص على أن يفاجئ إبداعُه الواقعَ؛ فانقسم الأدب عنده إلى قسمين، الأول إنساني، متجرئ على أن يكون نفسه، تطفر تقدميتُه من بين سطوره. والثاني تقليدي متقوقع في قوالب الماضي، لا يستحق الالتفات إليه. أتقن إسماعيل قواعد الكتابة كهاوٍ أتحفنا بوعيه المبكر، ثم راح يكسرها ككاتب محترِفٍ، وآمن بأن الرواية هي السبيل الأمثل للبحث عن الحقيقة، وكان يكتب أعماله بنبرة موشاة بالحس الإنساني، كاشفا عن كاتب لا يرى العالم بزاوية أحادية؛ إنه قادر على سبر أغوار النفس البشرية، ولهذا أدرجت بعض أعماله ومنها الخماسية، ضمن أفضل مئة رواية في الأدب العربي.

ناصر الظفيري: وطن أدبي

في عام 1987 قدمتُ عملي الأول لإسماعيل فهد إسماعيل قبل طباعته وكتب لي سطرا لن أنساه جاء فيه قوله: «أنت كاتب تقف على قدمين ثابتتين ولا تحتاج تشجيعا مني». ومنذ ذلك الحين توطدت علاقتي به، وبدأت أقرأ له أغلب أعماله مأخوذا بالأسلوب الذي انتهجه مبتدعا ما يمكن أن نسميه مسرحة الرواية. وكان يتنقل من هذا الأسلوب إلى أساليب السرد التقليدي والحديث ولكنه ظل دائما يتواصل مع الجديد من الأعمال وينتقل من رواية إلى أخرى بأسلوب مختلف. لم يكن إسماعيل مثقف سُلطة، ولن أنسى موقفه في ملتقى القصة في الكويت، حين تمت دعوة الكُتاب «البدون» ثم ألغيت الدعوة. قرر حينها الانسحاب من الملتقى وخلق أزمة للمجلس الوطني الذي رضخ له وتم إرسال دعوات واعتذار لنا. فقدنا إسماعيل فهد إسماعيل الذي لم يكن كاتبا عاديا وإنما كان رجلا حمل على كتفيه صناعة الرواية الكويتية، خصوصا بعد انتقاله إلى الكويت واستقراره فيها. كان يحتضن الجميع ويربت على كتف أي نص يقدم له مستخدما كلمته الأثيرة «جميل، جميل» وكنت أختلف معه في ذلك، معتبرا أن مديحه يوحي للكاتب الشاب بالتوقف عند هذا الحد، لكنه كان يرد عليّ بقوله: «لا أستطيع أن أصد كاتبا يتقدم لي بعمله، إذا كان جادا سيكمل المشوار». لم يكن إسماعيل فهد إسماعيل كاتبا كويتيا، بل كان كاتبا عربيا كتب «كانت السماء زرقاء» و»الضفاف الأخرى» عن العراق و»الشياح» عن الحرب الأهلية في لبنان ثم «النيل يجري شمالا» عن مصر. وكرّس رواياته الأخيرة عن المهمشين في الكويت وجاءت رائعته «العنقاء والخل الوفي» لتجسد معاناة البدون بكل جرأة وشفافية، متجاوزا الخطوط الحمراء التي تضعها الرقابة عادة حول هذا الموضوع. ثم كتب «طيور التاجي» عن الأسري الكويتيين في العراق، ولذلك أجمع القراء والكتاب في الوطن العربي على حبه وتقديره كاتبا وإنسانا. ولن ننسى إسماعيل الذي شكّل خلية مقاومة كويتية وجسد ذلك في رائعته «السباعية». كان إسماعيل وطنا لنا وستبقى حياته وأعماله حية لا تموت وسيبقى حاضرا أبدا وإن غاب جسده. سعاد العنزي: كاتبُ المَنْسيين في الحياة عُرِفَ شيخُ الرواية الكويتية الأديب الراحل إسماعيل فهد إسماعيل بعدد من السمات المميزة لأدبه، لعل أهمها هي غزارة إنتاجه الأدبي، ذلك أنه خلال ما يزيد على الأربعين عاما قدّم ما يتجاوز الثلاثين عملا، نجد من بينها مجموعتين قصصيتين، وعملين مسرحيين، وأربع دراسات نقدية، وفيما عدا ذلك أخلص هذا المبدعُ جهدَه لكتابة الرواية حتى استحق بجدارة أن يكون عميدا مؤسسا لها في الكويت والخليج العربي. كما يتسم خطابه الإبداعي والفكري والفني بالتجدد والتحول والتنوع، فلم يقف عند حد فكري معين، بل كان دائم التجديد والتجريب، صنوه صنو الأدباء المحترفين في العالم، الذين لا يقفون عند تجربة إبداعية واحدة. وهو مما لا شك فيه أمر يبين قدرة الأديب الفذة على تجاوز ذاته وتحدي خطواته الإبداعية السابقة في إتيانه بالجديد، وتدرجه في تحولاته التي لا تختلف عن بنية التطور والتجديد في الخطاب الأدبي العربي منذ ستينيات القرن الماضي، حتى احتفاء الوسط الأدبي في الكويت بآخر عمل روائي صدر له وهو: «صندوق أسود آخر». ومن المهم الإشارة إلى قضية مهمة تميز فيها خطابه السردي وهي العمق الفلسفي الذي قدمه في أعماله، إذ تتجسد الرؤية الفكرية العميقة في أعماله، بالإضافة إلى الإطلاع الواسع على حركات الأدب العالمية، والثقافة العميقة المحيطة بتاريخ الثقافة العربية الإسلامية والعالمية كذلك. لقد كانت بداياته وفية جدا للحظة الزمنية التي ظهر فيها، وعكس فيها انشغالاته العميقة بالقضايا القومية، فقدم قضايا العرب وارتباطه الفكري الملتزم بها في عدد من نصوص البدايات، ولم يقف عند هذا الحد، بل شهدت مسيرته الروائية تجددا في الموضوعات؛ فمن القضايا القومية، نجده أيضا يقدم قضايا الواقعية الاجتماعية كما صنفه النقاد آنذاك، وارتبطت مدارات حكاياته بهموم المواطن والطبقة الاجتماعية الكادحة من خلال المدرسة الواقعية. مثله مثل القامات البارزة في الوطن العربي، تنقلت فضاءات أعماله إلى قضايا إنسانية تتقاطع مع هموم المواطن العربي، من خلال العودة إلى الوراء ومحاولة البحث في المناطق المطمورة والمنسية في تاريخنا القريب والبعيد مثل «الظهور الثاني لابن لعبون» و»السبيليات». إذا كان الأدب يسجل ويلتقط لحظات الوجع الإنساني الذي لم يلتفت إليه أحد، فهو لم يفته أن يتذكر في المرحلة الأخيرة من أعماله المنسيين في الحياة، فتذكر شخصية البدون التي يرمز لها من خلال بطل روايته المنسي بن أبيه في رواية «في حضرة العنقاء والخل الوفي»، وهي الرواية التي تعد حجر الزاوية في قراءة أدب البدون ووثقت مع مجموعة من الأعمال الأدبية الأخرى لكتاب آخرين التاريخ الشفوي لهذه الجماعة الإنسانية التي هضمت حقوقها. ومن اللافت أيضا ونحن ما زلنا بصدد الحديث عن التجديد، إننا نجده مجددا في تقنيات خطابه الفني، فنصوصه تعبر عن ترابط وثيق بين البنية الفنية والمضمونية، وهذه سمة إبداعية أصيلة لا تتحقق إلا عند القليل من المبدعين الحقيقيين في الوطن العربي. سعداء الدعاس: كبيرنا الذي شَجعنا لا أعتقد أن هناك كاتبة أو كاتبًا، في محيطنا الجغرافي والافتراضي، لم يحظ باهتمام الراحل إسماعيل فهد إسماعيل، ومحبته له في يوم ما، إن لم يكن بالقراءة له، أو كتابة مقدمة لمنجزه، فلا بد – على أقل تقدير- أنه حظي منه بتشجيع معنوي، يُدبجه دائما بألقاب خلابة، تُشكل للطرف الآخر، كل شيء! قبل أن أمارس العمل الأكاديمي، كنت أرى أن تلك الألقاب مبالغة من أديبنا، بل إنني قلتها له بود في إحدى المرات، بعد أن نادى أحد الكتاب الشباب بـ»المبدع الجميل». فأكد لي – بحنان الأب- أن المحاولات الجيدة، والاستمرار في كتابتها، حتما ستصنع من ذلك الشاب مبدعا جميلاً يوما ما! واليوم، وبعد أن بات لديّ عدد لا يستهان به من الطلبة، لاحظتُ ـ تلقائيا – أن التشجيع صار ملازما لمفرداتي، وأن الأم التي في داخلي لا تغادر قاعة الدرس بسهولة. فما أن يُنجز أحد أبنائي الطلبة نصا ألمس فيه الصدق، وشيئا من الجودة التقنية، حتى أجدني أحتفي به وأتعامل مع محاولته الأولى باهتمام كبير. لقد أدركتُ بعد سنوات، أن إسماعيل لم يكن يبالغ، بل كان ذلك (الأب) بالقدر الذي لم أكن أنا قادرة على تخيله! وبالقدر ذاته من المحبة والحنان، كان يتقبل الآراء التي تختلف معه أيضا، أو تتوقف عند ملاحظات معينة على منجزه، فكنت أظن هدوءه حينها، نتاج ثقة معشقة بحالة من السلام الداخلي، والتصالح مع الذات، إلى أن اكتشفتُ أن ذلك الرجل هو المعنى الحقيقي، لقبول الآخر، باختلافاته، وخلافاته، ليعلمنا كل يوم من أيام حياته، إلى يوم رحيله، درسًا في الاحتواء! اليوم، وبعد صدمتي بالخبر المؤلم، تذكرتُ كل كلمة تشجيع قالها لي بلهجته الخاصة جدا، كل لحظة إصغاء أنصتَ فيها لكلماتي بنظرته العميقة، وكل ابتسامة صادقة، كسر بها حاجز اللقاء الأول، في إحدى ندوات مكتبه في (شرق)، قبل ما يزيد عن العشرين سنة، إلى آخر لقاء، يوم احتفى الوسط الثقافي بالروائي الكويتي ناصر الظفيري، في أمسية قاسية حينها، باتت اليوم ذكرى أقسى! لقد علمتنا الحياة أن كل مجتمع له كبير، ومن لا كبير له، لا سند له، هكذا كان إسماعيل فهد إسماعيل، كبير الثقافة الكويتية، كبيرنا الذي غادرنا بدون مقدمات، بعد أن اعتدناه في حياتنا، على صفحات صحافتنا، محتلا مكانة مهمة من مكتباتنا… وكم كنا نعتقد أنه اعتاد حياتنا… أو هكذا كنا نتمنى!

دلال محمد جرخي: الخل الوفي.. يترجل إلى مثواه الأخير

يقول إسماعيل فهد إسماعيل: «الموت حسابات مستغلقة على الفهم». نحن مفجوعون بخسارته، لا نود أن نفهم لماذا وكيف ومتى رحل، ليس من عادته أن يتركنا وراءه مع هذا الكم من الحزن والدهشة والدموع. في صباح يوم الثلاثاء، وعندما كانت السماء «سوداء» غادرنا إسماعيل فهد إسماعيل على غير عادته سالبًا منّا زرقة سماء هذا اليوم، غادرنا بدون وداع وبدون سابق إنذارٍ سحب نفسه من الحياة وتركنا نغرق حزنًا عليه. للمرة الأولى وعلى غير عادته، يترك لنا الرواية هائمة بدون سرد، لتكون كالبقعةِ الداكنة في صباح هذا اليوم. لا أود التحدث عن أعمال إسماعيل فهد إسماعيل شيخ الروائيين واستعراضها، بل أود الحديث عن ذلك الإنسان البشوش النبيل والمتألق دائمًا وأثر رواياته على القارئ. عندما قرأت خبر وفاته هذا الصباح، شعرت بأنني أعيش في إحدى رواياته، كنت مدهوشة ومكسورة ومصدومة، كالكثير من أصدقائي. لا نريد تصديق رحيله، كيف نصدق رحيله وهو الذي كان يتحدث مساء الأحد عن آخر أعماله وعن تدني مستوى الرقابة في الكويت وتضييقها للحريات. كيف نصدق وهو الذي كان حاضرًا في كل مشهدٍ ثقافي، لا نريد تصديق رحيل الوجه البشوش والقلب الطيب الذي ملأت كتبه الرفوف، وسال حبر قلمه في ذاكرتنا. رحيله صفعة مدوية للقلب والعقل، يأبى القلب المحب لهذا الوجه الرقيق الذي غزته تجاعيد السنين أن يتقبل فكرة موته، ويرفض العقل الذي استنار بفكره واحتفى بالتزام هذا الشخص للقضايا والهموم الإنسانية المحلية أن يصدق رحيله ويستوعبه. في بداية محاضرة اليوم لمادة الثقافة والأدب في الكويت، بدأ مرسل العجمي محاضرته بنعي فقيدنا إسماعيل، يقول العجمي: «هو إنسان لطيف، وقلبه كقلب طفلٍ. لا يرد أحد وبابه مفتوح للجميع حتى الذين أساؤوا له..» أكّد العجمي هذا الخبر لأغرق في بحر حزني وأفكاري، وليثبت لي أن البطل مات وانتهت الرواية المحببة إلى قلوبنا. إسماعيل شخصٌ متواضعٌ جدًا والجميع يشهد له بذلك، هو الوجه الأسمى والمعنى الأرقى للثقافة والأدب في الكويت. عرفناه أبًا لكل المثقفين، الأب الذي نفخر به ونفرح بحضوره ومحادثته دائمًا، قلبه يتسع الجميع بدون استثناء. نشأ على يده العديد من الروائيين الشباب، كيف لا وهو داعم الشباب الأول هو شخص سخّر عمره كلّه للرواية والأدب. بالله عليكم من مثل إسماعيل؟ هو الكويت، هو الذي كتب معاناة أبنائها وخلق المشهد الروائي من خلال قلمه، وعبّر عن همومهم من خلال سرده، يطرح القضايا الإنسانية ويعالجها ليقدمها إلى القارئ، تجاوز كل الحدود الإقليمية في أعماله. نحن لم نكن نقرأ لإسماعيل وحسب، بل كنّا نعيش مع تفاصيل شخصياته ونتفاعل معها. نحن نقرأ إسماعيل ونتعلم منه ونتنفس أملًا من خلال سرده، يزرع فينا الأمل بالرواية الكويتية ومستقبلها المشرق، وها هو يرحل دافنًا معه كل آمالنا. كان يحث الشباب على القراءة، إيمانًا منه بأهميتها وانعكاسها على الكاتب فيقول: «عندما يضع الكاتب نصب وعيه أنه يخاطب قارئا نبيلا نبيها في الوقت ذاته، يلزمه احترام ذكاء شريكه» رحيله غصّة بلا شك في قلوبنا، وندبةٌ أثرها باقٍ في ذاكرة المثقف الكويتي والعربي، ولكن العزاء الوحيد لهذا الرحيل الهادئ والمفجع هو الإرث الذي تركه لنا من كتاباته، ليكون حاضرًا كما لو أنه كان حيًا وبيننا. يبقى إسماعيل فهد إسماعيل خالدًا ولا يزعزع مكانته لدينا أحد، حتى الموت ذاته. سيبقى بيننا حيًا ولن تطمسه السنين، لن نسميه الراحل، بل هو الحاضر دائمًا وأبدًا كما عهدناه، فمثله لا يودّع. رحل بهدوءٍ وسلامٍ يليق به، وبفاجعةٍ وصدمةٍ لا تليق بنا ـ نحن أبناءه وقرّاءه ومحبيه ـ رحل وتركنا خلفه، نبكيه ونحيي ذكراه، ذكرى البحر الفائض بعطائه اللامحدود.

المصدر
القدس العربي
اظهر المزيد

اترك تعليقك

زر الذهاب إلى الأعلى