حكاية دمية سجنتها إسرائيل مع صاحبها 18 عاما!
قد يبدو العنوان مبالغاً فيه، لكن الحقيقة أن إسرائيل اعتقلت فلسطينياً في سجونها لنحو عقدين من الزمن، واحتجزت بالفعل معه دميةً كان قد اشتراها لطفلته ذات العامين، في واحدة من أكثر القصص قسوةً في تاريخ الشعب الفلسطيني.
بدأت حكاية الدمية “ميمي” كما سمّاها بطل القصة عماد الدين الصفطاوي، من مدينة دبي، عندما اشتراها من أحد متاجر الألعاب عام 2000، كي يهديها لابنته “سارة” التي لم يتجاوز عمرها آنذاك ربيعين من العمر.
يقول الصفطاوي: “عندما دخلت متجر الألعاب تملكني شعور غريب، أحسست كأن الدمية تناديني وتقول: أنا لعبة ابنتك، فتوجهت إليها واشتريتها على الفور. لقد وقعت في حب هذه اللعبة وشعرت أنها تشبه ابنتي”.
انتظر الصفطاوي على “أحر من الجمر” أن يوصل الدمية إلى طفلته المدللة ليرى فرحتها بها، لكن اللعبة لم تصل صاحبتها الصغيرة، ففي طريق عودته من الإمارات اعتقلته قوات الاحتلال عند بوابة قطاع غزة – حيث تقطن أسرته – لتؤجل فرحته وضحكات طفلته.
كان الصفطاوي البالغ حالياً 55 عاماً، مسؤول المساجد بوزارة الأوقاف، وعضوا مستقلا في المجلس الوطني الفلسطيني، اعتقلته إسرائيل لنشاطه بمقاومة الاحتلال قبل توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، في انتهاك واضح للاتفاقية التي تقضي بعدم محاكمة أي فلسطيني على أنشطته في المقاومة خلال الفترة التي سبقت توقيع المعاهدة.
وبعد نحو عقدين من الزمن قضاها داخل السجون الإسرائيلية، أُفرج عن الصفطاوي في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، لتعود قصة الدمية وتجتر آلام أعوام خلت.
في بداية أيام اعتقاله، أصرّ الصفطاوي على أن ترافقه اللعبة في زنزانته، إذ كان يحدثّها في وحدته ويرى من خلالها عائلته.
لكن بعد مرور عام، فضّل أن تغادر الدمية المعتقل إلى صندوق الأمانات بالسجن، لأنها كانت تُبقي على جرح مأساته مفتوحاً، فكان عند رؤيتها يتخيل طفلته “سارة” ويزداد شوقه إليها ولبقية أطفاله وزوجته.
وبعد أن قضت الدمية “ميمي” 18 عاماً، أرسلتها السلطات الإسرائيلية مع بقية مقتنيات “عماد الدين” إلى عائلته قبل نحو أسبوع من الإفراج عنه نظراً لانتهاء محكوميته، لتصل الدمية إلى “سارة” التي لم تعد طفلة وإنما أصبحت فتاة تخطت العشرين عاماً.
بعد أن مر الأسبوع متثاقلاً وكأن اليوم منه بسنة، تنفس الصفطاوي نسائم الحرية، وكانت الدمية أول الأشياء التي تقع عليها عيناه، ليبتسم لحظتها فـ”شريكته في النضال”، كما قال: “باتت حرة أيضاً ووصلت ليد صاحبتها”.
وعلى الجانب الآخر من الحكاية، تقول “سارة” إنها لم تكن تعلم بأمر الدمية فقد كانت صغيرة عندما اشتراها والدها، لكن عندما وصلت إليها بعد نحو عقدين من موعدها الأصلي، شعرت بحجم حب والدها لها.
لم تكن “سارة” تصدق أن خروج والدها من السجون الإسرائيلية سيأتي يوماً، ولكن عندما أعطتها والدتها اللعبة قبيل إطلاق سراحه، كانت البشرى بقرب انعتاقه.
“عندما أخذت اللعبة من أمي بكيت كثيرا. بكيت حزناً على عمرٍ قضيناه بعيداً عن أبي، وفرحاً بأن حكاية الألم انتهت وسنعيش بداية جديدة بين أحضانه”، تقول سارة.
وتضيف: “كم هو مجرم الاحتلال بحرمانه أطفالاً من أبيهم لسنوات طويلة”، إذ لم تكن حكاية الصفطاوي مجرد لعبة لم تصل لصاحبتها، فالسنوات الماضية حملت معاناة من نوع مختلف.
ويقول “عماد الدين” إن “الاحتلال يعتقل الفلسطيني ليس ليعاقبه مرة واحدة، بل يريد أن يشعره أنه يعاقبه في كل سنة وأسبوع ويوم وساعة ودقيقة، ويبقيه يعاني طوال فترة اعتقاله كي يكسره نفسياً وبدنياً”.
وتتنوع وسائل إسرائيل في إنهاك وتعذيب المعتقلين، فهي – بحسب الصفطاوي – “تريد أن تُشعر المعتقل بأنه ملكها، وأنها قادرة في أي لحظة على قلب حياته رأساً على عقب”.
ولعل أقل أساليب التنكيل بالمعتقلين الفلسطينيين بسجون إسرائيل، ما يعرف بـ”دق الشبابيك”، حيث يضرب السجان قضبان الغرف قبل أن يطلب من المعتقلين إخلاء الغرفة بالكامل لتفتيشها، وهذا يحدث مرتين على الأقل يومياً.
وتصل وسائل قمع المعتقلين إلى اقتحام قوات مسلحة لغرفهم وضربهم، وربما إطلاق النار عليهم كما حدث مع الصفطاوي عندما أطلق أحد الجنود النار على قدمه وأصابها من “مسافة صفر”.
وفي بعض الظروف كانت القوات الإسرائيلية تتعمد إجبار المعتقلين على خلع ملابسهم بالكامل، وإخراجهم من غرفهم وضربهم، في محاولة لكسرهم نفسياً، كما يروي الصفطاوي.
وحاول الصفطاوي أن يتغلب على سنوات سجنه بقراءة الكتب وتعليم المعتقلين، مشيراً إلى أنه قرأ مئات الكتب بكافة المواضيع وخاصة العلوم الشرعية والأدب.
كما شارك في التدريس ضمن برنامج ليسانس التاريخ، ودبلوم تأهيل الدعاة، والخدمة الاجتماعية الخاص بالمعتقلين، بالتعاون مع جامعة الأقصى (حكومية فلسطينية) وكلية العلوم التطبيقية (غير حكومية).
وبقدر المعاناة التي عاشها الصفطاوي داخل المعتقل، كان شعور الفرح فور إطلاق سراحه ووصوله إلى قطاع غزة.
ويقول: “شعرت بالفرح يغمرني من أخمص قدماي حتى رأسي، الفرح كان بمذاقات جميلة ومتعددة فقد فرحت بالنجاة وبلقاء أسرتي”.
“شعرت أني انتصرت على الاحتلال، فرغم 18 عاماً قضيتها في المعتقل خرجت، وها هي أسرة كاملة تنتظرني ووطن برحابته يتسع لي”، يضيف الصفطاوي.
أمّا الجانب الآخر من معاناة الأسير المحرر، فقد تجرعته زوجته سعدية الحوراني (49 عاما) التي تزوجها في مدينة درعا السورية، وتنقل معها في بلدان عربية كالجزائر والسودان ومصر، قبل أن يعودا إلى فلسطين، وينجبا 5 أبناء ثلاثة منهم ذكور وابنتين أصغرهما ولدت بينما كان والدها داخل المعتقل.
في بداية الاعتقال قضت “سعدية” أياماً غاية في الصعوبة، لم تفارق الدموع عينيها، فقد كانت حاملاً بابنتها “لين” ولديها 4 أطفال، وعائلتها تقطن في سوريا، وكان زوجها يمثل كل شيء في حياتها.
وتقول سعدية: “كان اعتقال عماد صدمة هائلة لي ولأطفالي، عشت تحت ضغط هائل في بداية الأمر، فأطفالي كانوا بحاجة إلى متابعة دائمة وكان يجب علي أن أكون الأم داخل البيت، والأب خارجه”.
وتضيف: “كنت متألمة أبكي باستمرار، وفي كثير من الأحيان انهارت أعصابي قبل أن أنجح بالتأقلم مع الوضع الجديد بعد عام كامل، وكان ما ساعدني على ذلك تفكيري الدائم بأطفالي والاستعانة بالله في كل موقف صعب”.
ولعل ما زاد من معاناة “سعدية” أنها لم تكن تعرف شيئاً عن زوجها على مدار عام كامل سوى أنه معتقل، فالسلطات الإسرائيلية كانت تمنع زيارته أو التواصل معه حتى عبر المؤسسات الحقوقية الدولية مثل الصليب الأحمر.
وقضى الصفطاوي عاماً دون محاكمة، قبل أن توجه له السلطات الإسرائيلية تهمة ممارسة أنشطة تتعلق بالمقاومة الفلسطينية، وتحكم عليه بالسجن.
وخلال سنوات الاعتقال، لم تعرف الأسرة معنى لشهر رمضان أو للمناسبات والأعياد، فعندما كان المصلون يرددون تكبيرات العيد في المسجد كانت زوجة “عماد الدين” وأطفاله يبكون في منزلهم.
وما زالت الزوجة “سعدية” تذكر تفاصيل ليلة طويلة لم تنم فيها وعاشت خلالها مشاعر الخوف والقلق والحزن والفرح في وقت واحد.
وتقول: “كنت محرومة من زيارة زوجي في المعتقل، وبعد 13 عاما من اعتقاله أبلغتني اللجنة الدولية للصليب الأحمر بأنه سيسمح لي بالزيارة”.
“في الليلة التي سبقت يوم الزيارة لم أذق طعما للنوم، كنت طوال الليل أبكي ولم أصدق أني سأزوره وأراه أخيراً، بت أعدّ الساعات والدقائق قبل أن يحين موعد الزيارة”، تضيف سعدية قبل أن تجبرها دموعها على التوقف عن الحديث.
وتتابع بعد أن تمالكت دموعها: “لم أكن أصدق أنني سأرى زوجي فقد كنت أخشى أن يمنعني الاحتلال من الزيارة بشكل مفاجئ، وبقيت على هذه الحالة إلى أن دخلت صالة الزيارة ورأيته من بعيد لأصرخ فرحاً وبشكل لا إرادي: إنه هناك إنه حقًا هو ! كانت لحظات مرة وقاسية”.
قضت “سعدية” مدة الزيارة التي لم تتجاوز النصف ساعة وهي تبكي، وكادت أن تفقد وعيها من شدة الإرهاق الذي أصابها فهي لم تنم في تلك الليلة، وفقًا لحديثها.
تلك اللحظات تكررت أيضاً ليلة الإفراج عن “عماد الدين”، لكنها حملت نوعاً آخر من الفرح، فهذه المرة لن تترك زوجها وتعود وحيدة إلى المنزل.
وتقول: “كنا نعد السنوات والأشهر والأسابيع والأيام والساعات لموعد الإفراج عن زوجي، وكانت المخاوف تسيطر علينا فالاحتلال قد يؤخر الإفراج عنه”.
وفي الليلة التي سبقت إطلاق سراحه، جهزت زوجته وابنتاه المنزل بالزينة وعبارات التهنئة، وكانت الفرحة تغمرهم والدموع لا تفارقهم.
وفي الصباح توجهت العائلة إلى معبر “بيت حانون” (شمال) وبعد ساعات من الانتظار شاهدت “سعدية” أخيرا الحافلة التي تحمل زوجها وشاهدته وهو ينزل منها لتصيب جسدها رجفة كادت تسقطها أرضا.
وتقول: “عندما شاهدته بكيت وتنفست الصعداء فقد أدركت أن أعوام الألم والمعاناة والوحدة انتهت بلا رجعة. أخيرا عاد زوجي وعادت الفرحة لمنزلي”.