متقاعدون مغاربيون في فرنسا…. حرمان من تقاعد آمن
لن يستطع الثمانيني المتقاعد علي الفيلالي، مغادرة فرنسا نهائيا والعودة إلى بلده الأم، حتى لا يحرم من منحة التضامن مع كبار السن، التي يحصل عليها من الدولة الفرنسية، في ظل حصوله على معاش تقاعدي هزيل، بعدما أفنى عمره في العمل في مهنة النظافة بمترو الأنفاق.
ورغم رغبته الجارفة بالعودة إلى المغرب، كما يقول لـ”العربي الجديد”، غير أنه مُلزَمٌ بالبقاء في فرنسا، على الأقل ستة أشهر في العام، كما يقول بحزن: “أحسّ بالحرمان، لأني لست مع أحفادي الآن، وفي حال بقائي في بلدي فترة أطول، سأفقد كثيرا من معاشي التقاعدي”.
ويعد الفيلالي واحدا من بين 235 ألف متقاعد من المغرب العربي في فرنسا، منهم 127 ألف متقاعد جزائري و65 ألف متقاعد مغربي و37 ألف متقاعد تونسي، حصل مائة ألف منهم على الجنسية الفرنسية، وفقا لتقرير سنوي صادر عن جمعية أيام زمان الباريسية، التي تعنى بقضايا المتقاعدين، وهو العدد الذي يتطابق مع تقديرات تقرير صادر عن جمعية “فيدرالية جمعيات المغاربة”، في العام 2017، مع الأخذ بالاعتبار رحيل بعضهم، ووصول آخرين جدد إلى سن التقاعد، فوق سن الخامسة والستين، يعيشون “لا مرئيين”، و”لا صوت لهم”، ولم يَعُد معظمهم إلى بلدانهم، “اضطرارا”، وأقلية فقط “اختيارا” (لأن معظم أصدقائهم موجودون في فرنسا، ويحسون بنوع من الغربة في بلدانهم الأصلية)، كما تؤكد مايا لوكوان، المديرة المساعدة لجمعية “أيام زمان”.
أسباب هشاشة المعاشات
لم يكن المتقاعدون ينوون البقاء أكثر من سنوات قليلة يجمعون فيها بعض الثروة ويعودون لاستثمارها في بلدانهم ومع أهاليهم، كما لم يفكروا بالتقاعد مطلقاً، بحسب الستيني محمد زروالي، الذي يتقاضى 200 يورو راتبا تقاعديا، مشيرا إلى أن التقاعد غير معروف لدى القرويين، الذين يشتغلون حتى الرمق الأخير من حياتهم أو حتى يعجزون عن الحركة.
ويقول زروالي القادم من بيئة قروية مغربية، لـ”العربي الجديد”: “راكمتُ مِهَناً صغيرة خلال سنوات طويلة في فرنسا، وحصلت على المال دون الاهتمام بالحصول على أوراق رسمية تثبت ذلك، إلا بعد فترة طويلة، عندما عرفت أني لن أغادر فرنسا”، وهو ما وقع مع الجزائرية سعدية الراجي التي تتقاضى راتبا تقاعديا يقدر بـ189 يورو، رغم أنها لم تتوقف عن الشغل منذ وصولها إلى فرنسا في العام 1988، كما تقول، موضحة أنها اشتغلت عشر سنوات خادمة وطبّاخة، وكانت تدفع الاشتراكات الاجتماعية، لكن دون شواهد شغل رسمية، لأن إقامتها لم تكن شرعية، وقسم التقاعد لم يأخذ بالحسبان سوى السنوات التي اشتغلت فيها.
ويفسر الأكاديمي والخبير الاقتصادي الفرنسي علي بوكبّوس أسباب هشاشة رواتب المتقاعدين المغاربيين قائلا: “إما أن هؤلاء المتقاعدين وصلوا في وقت متأخر إلى فرنسا، فسنوات اشتغالهم ليست كافية لتقاعد كامل، وإما أنهم اشتغلوا في كثير من المهن ولم يصرّحوا بها، أو لم يرغب مشغّلوهم في فعل ذلك، عن جهل وأحيانا بشكل متعمد، حتى لا يدفعوا ضرائب عنها”.
”
لم يكن المتقاعدون ينوون البقاء أكثر من سنوات قليلة يجمعون فيها بعض الثروة ويعودون لاستثمارها في بلدانهم ومع أهاليهم، كما لم يفكروا بالتقاعد مطلقاً
” ويربط الأكاديمي الفرنسي يحيى الشيخ، مدير المركز العالمي للدراسات العربية والبحوث الفلسفية والتاريخية في باريس والباحث في شؤون الهجرة، بين الأمية لدى هؤلاء المتقاعدين وبين عدم معرفتهم المسبقة بإجراءات التقاعد، بالقول: “معظم هؤلاء المهاجرين أميون، ولا يزالون، هذا ما نشاهده عندما يأتون بملفاتهم إلى جمعيات تُعنى بمساعدتهم وإرشادهم”، ومنهم المتقاعد الجزائري الذي كان يعمل في الشركة الوطنية للسكك الحديدية محمد العمراني، حسب إفادته لـ”العربي الجديد”، والذي استطرد قائلا: “نعم وصلنا إلى فرنسا ونحن شباب، ولم نفكر بالقراءة والتعلم، رغم أن الأمر كان متاحاً، البعض منا فعل ذلك، فتحسّنت ظروف عمله وارتفع راتبه”.
واتجه معظم المتقاعدين إلى قطاع البناء أو المناجم والمصانع، فيما مارس آخرون مِهَناً زراعية تعتمد على القوة الجسمانية وهي المهن نفسها التي عملوا بها خلال عقود، وعلى هذا الأساس كان يتم اختيارهم، سواء في فرنسا، أو في بلدانهم عند ذهاب المُشغّلين لجلبهم. وفق ما ذكره الباحث الفرنسي شارل روبرت أجيرون، في مقاله الهام: “الهجرة المغاربية في فرنسا” بمجلة التاريخ، القرن العشرين، 1985. (ص. 59 – 70).
منح مشروطة
تتيح منحة التضامن مع كبار السنّ (ASPA)، التي تقدمها الدولة الفرنسية، للمستفيد الذي يعيش وحيدا في فرنسا، أن يحصل على ما يعادل الحدّ الأدنى للتقاعد، المقدر بـ787.26 يورو شهريا، بحسب تأكيد زروالي والراجي والفيلالي.
لكنّ الحصول على هذه المساعدات مقرون بعدة شروط، أهمها امتلاك إقامة سكن مستقر ومنتظم على التراب الوطني الفرنسي خلال ستة أشهر على الأقل سنويا، حسب مرسوم 18 مارس/ آذار 2007 المنشور بالجريدة الرسمية، والذي ينص على أنه: “يحق الاستفادة من منحة التضامن مع كبار السن، لمن يقطن بصفة مستقرة ومنتظمة في فرنسا، أو في إحدى المناطق التابعة لها، ومن يتوفر على بيت، أو مكان إقامة رئيسي”.
ويحدد تعميم الصندوق الوطني لتأمين التقاعد، رقم 2009/8 الصادر بتاريخ 29 يناير/ كانون الثاني 2009، البيت باعتباره “مكان إقامة اعتياديا ودائما، ومكان الإقامة الرئيسي باعتباره المكان الذي يكون المستفيد من المنحة حاضرا فيه لفترة تتجاوز ستة أشهر، خلال السنة التي تُصرَف فيها هذه المساعدة، على أن شرط الإقامة لا بد أن يتحقق منه أثناء التقدم بالطلب، ولكنه قد يخضع لاحقاً للمراقبة أثناء مراجعة الحقوق”.
وتتسبب هذه الشروط بالكثير من المعاناة النفسية والاجتماعية للمتقاعدين المستفيدين من المنحة الفرنسية، نتيجة حرمانهم من العودة إلى بلدانهم، في الأفراح والمآسي، خوفا من فقدانهم لهذه المساعدات، خاصة أن السلطات الفرنسية المختصة تفتش جوازات السفر للتأكد من عدم سفر المستفيدين، بحسب تأكيد الراجي والفيلالي وزروالي، الذين يجهلون هذا المرسوم، فيجدون أنفسهم بعد عودتهم من بلدانهم الأصلية إلى فرنسا محرومون من هذه المساعدات، ومضطرون لتقديم ملفاتهم من جديد.
ويقول عالم الاجتماع قدور زويلاي، لـ”العربي الجديد”، إن المتقاعدين يرغمون على طرق أبواب جمعيات خيرية، كـ”الإغاثة المسيحية” أو الإغاثة الشعبية، أو مطاعم القلب من أجل لقمة خبز، أو معاطف يرتدونها، لكنهم يرفضون الحديث عن هذه الظروف، لأنهم يرون فيها إهانة.
ولا يكتفي المتقاعدون بطرق أبواب الجمعيات الخيرية والإغاثية، بل يقصدون المصالح الاجتماعية في البلديات. لكن الموافقة على مساعدات هذه المصالح ليست تلقائية، بل تتطلب إعداد ملف يكشف هشاشة وضعية المتقاعد، وغالبا ما يحصل طالبوا المساعدة على مبلغ 100 يورو شهريا، بحسب تأكيد متقاعدين التقاهم معد التحقيق.
مرسوم فرنسي غير إنساني
ظلّ بعض المتقاعدين وحيدين في فرنسا، فيما قرر البعض الآخر اصطحاب عائلاتهم معهم، بعد مرسوم الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان بتاريخ 29 إبريل/ نيسان 1976، بخصوص التجمع العائلي، أو جمع الشمل، وفق تأكيد محمد زرولت، رئيس جمعية فيدرالية الجمعيات المغربية في فرنسا، لـ”العربي الجديد”، مؤكدا أن السلطات الفرنسية سعت من خلال هذا المرسوم إلى وضع حدّ للأموال التي يرسل بها العمّال إلى بلدانهم، وجعلهم ينفقونها في فرنسا، وليس لغرض إنساني، كما يقول.
لكن المتقاعدين الذين اصطحبوا عائلاتهم معهم للعيش في فرنسا، قلت معاناتهم، لأن رواتب الأبناء، وأحيانا الأحفاد، عوضت النقص الكبير في رواتبهم، وفق ما وثقه معد التحقيق مع متقاعدين في فرنسا.
ويؤكد الباحث والروائي المغربي الطاهر بنجلون، في بحثه “أقصى درجات العزلة”، الصادر عن دار (سُويْ/ باريس) في العام 1981، أنه من الطبيعي أن تكون مصائر هاتين الفئتين مختلفة، فبينما استطاع من اصطحب عائلته إلى فرنسا أن يعيش حياة متوازنة بعض الشيء، حيث وَقعُ الغربة أقل وطأة، ظلت الفئة الأخرى تعيش حياة عزلة اجتماعية وعاطفية مدمّرة.
وعلى الرغم من انتقاد العديد من الجمعيات والمنظمات الحقوقية والعمّالية الفرنسية لهذه القوانين المتشددة والمطالَبَة بتغييرها، إلا أن المسؤولين في كل مكاتب تأمين التقاعد يؤكدون لهؤلاء المتقاعدين، الذين لا يستفيدون من هذه المساعدات، أنهم يستطيعون أن يتحركوا كما يشاؤون.
وتعلّل السلطات المعنية موقفها بأن الأمر يتعلق بمساعدات تقدمها الدولة، بأريحيتها، وليست حقوقاً مضمونة للمتقاعد، وهو ما يوجب على المستفيد منها أن ينفقها في بلد إقامته، أي فرنسا، وهو ما يمكن قراءته على بوابة الموقع الرسمي للإدارة الفرنسية (Service-Public.fr).
ما السبيل لتغيير واقع المتقاعدين؟
تناضل جمعية العمال المغاربيين وناشطين حقوقيين لتغيير الواقع، بحسب تأكيد ناصر الإدريسي، رئيس مكتب باريس ـ المقاطعة الثامنة عشرة التابع للجمعية، والذي قال لـ”العربي الجديد”: “غير مقبول من الناحية الإنسانية والاجتماعية، معاملة هؤلاء العمال الذين ساهموا في ازدهار البلد بهذه الطريقة المُذلّة”، مضيفا أن الأمر لا يمكن أن يتحرك دون تدخل من السلطات المغاربية، التي يبدو أنها لا تكترث، الآن، كثيرا لمواطنيها الذين ساعدوها، في الماضي، عبر ضخّ العملة الصعبة.