كيف يقضي سكان أكبر سجن في العالم يومهم؟
لا بد أن تأخذ نفساً عميقاً وتستجمع قوى ذهنك قبل أن تبدأ بقراءة السطور التالية، فهي ستروي حكاية حياة نحو مليوني إنسان يعيشون في شريط ساحلي ضيق تكاد تنعدم فيه الأسس والظروف الملائمة لحياة البشر.
في الجهة الشرقية الجنوبية من ساحل البحر الأبيض المتوسط، على الحد الفاصل بين آسيا وإفريقيا ضاقت الأرض بما رحبت بسكان قطاع غزة أو “أكبر سجن في العالم”، كما يصفه أهله.
فهناك تتزاحم الأزمات حول رقاب البشر بداية من شح الكهرباء والمياه والدواء وتلوث الهواء، وليس انتهاء بأزمة السكن وضعف الخدمات الصحية والتعليمية وانعدام فرص العمل وارتفاع معدلات البطالة والفقر لأرقام قياسية.
كل تلك الأزمات انعكست في عيني الفلسطيني أبو مصطفى المصري بينما كان يجلس على رصيف قرب منزله في مخيم الشاطئ للاجئين، الذي تقدر مساحته بـ0.7 كم² ويقطنه نحو 87 ألف نسمة ليكون أحد أكثر بقاع العالم كثافة سكانية.
المصري، الذي تخطى سنوات عمره الـ45 ولديه 12 طفلاً، أحد الموظفين العموميين التابعين للسلطة الفلسطينية برام الله، كان طوال 10 أعوام مضت يعتاش على راتبه الحكومي، إلا أن السلطة قررت منذ أبريل/ نيسان 2017، تقليص رواتب موظفيها في القطاع بنسبة 30%، قبل أن ترتفع النسبة قبل 4 أشهر إلى 50%.
ذلك التقليص، الذي يأتي ضمن إجراءات اتخذها الرئيس الفلسطيني محمود عباس ضد قطاع غزة ليجبر حركة “حماس” على إنهاء الانقسام المتواصل منذ 2007، أرهق تفكير المصري فهو لم يعد يحصل إلا على (60 دولار) شهرياً، وهذا المبلغ يكاد يكفي احتياجات أسرته المتزايدة ليومين فقط.
وقبل شروق الشمس يستيقظ المصري لا ليمارس رياضة أو يذهب إلى عمل، فغزة كما يقول أهلها ساخرون “باتت مثل الجنة لا عمل فيها”، بل ليهرب من طلبات أطفاله التي لا تنتهي، وليحاول البحث عمن يقرضه شيئاً من المال يسدده بعد “أجل غير مسمى”، ليتمكن من توفير الطعام لأفراد أسرته قبل الغروب.
غزة كما يقول أهلها ساخرون “باتت مثل الجنة لا عمل فيها”
ويساعد المصري في نفقات منزله نجله مصطفى الذي لا يزيد عمره عن الـ20 عاماً، عندما يحصل على عمل مؤقت على فترات متباعدة.
توفير الطعام ليس الهم الوحيد للمصري، فموسم الدراسة بدأ قبل نحو أسبوع، وهو لم يوفر لأطفاله حتى الآن ملابس وحقائب المدرسة والقرطاسية، ويتشظى قلبه عندما يراهم يذهبون إلى مدارسهم بملابس العام الماضي البالية.
وبعيداً عن المصري ولكن ليس بعيداً عن همومه، كان الشاب صلاح أبو سمعان يعد ثلاثة أكواب من القهوة، المشروب الأكثر شهرة في غزة، لزبائن عربته الصغيرة التي يتجول فيها بأزقة مخيم الشاطئ ويبيع عليها مشروبات ساخنة.
أبو سمعان ليس موظفا ومصدر رزقه الوحيد هو عربة المشروبات الساخنة، إلا أن ما يحققه من دخل لا يتجاوز (4 دولارات) يومياً لا يكفي لسد ربع الاحتياجات الرئيسية لأسرته المكونة من 6 أفراد.
ويضطر الشاب الفلسطيني إلى الاستدانة من جيرانه وأصحاب محال البقالة والخضروات شهرياً بما يزيد عن (نحو 200 دولار)، ليصل حجم ديونه خلال السنوات الثلاثة الماضية، إلى رقم لم يعد بإمكانه حفظه.
وإضافة إلى أزمته المالية الخانقة التي لا تختلف عن سابقه، فإن أبو سمعان لم تسعفه ظروفه المادية في توفير بدائل تخفف من أزمتي الكهرباء والمياه، فمنزله لا يُضاء إلا 4 ساعات يومياً ونادرا ما تصله المياه.
وتضطر زوجته العشرينية للاستيقاظ في بعض الأحيان بساعة متأخرة قبيل الفجر عندما تتوفر الكهرباء والمياه، لتغسل ثياب أطفالها وزوجها وتسرع لتضخ المياه إلى الخزانات على سطح المنزل قبل أن تشرع بجلي الأواني وتنظيف المنزل، مسابقةً الزمن، فالتيار الكهربائي يمكن أن ينقطع بأي لحظة.
وكما الأزمات المكدسة، فإن رائحة مياه الصرف الصحي التي يتم ضخها إلى شاطئ البحر القريب من منزله، تحاصر أنفاس أبو سمعان وأطفاله وزوجته خاصة في فصل الصيف، علاوة على الحشرات التي تغزو منطقته بسبب هذه المياه.
ومثل أبو سمعان فإن الشاب مصطفى عبد الغني يعاني من أزمتي المياه والكهرباء، إلا أنه استطاع التعايش معهما، لكن ما يرهقه أكثر تقاضيه 40% من راتبه فقط، فهو موظف في حكومة قطاع غزة التي تديرها حركة حماس وتواجه منذ أكثر من 5 أعوام أزمة مالية خانقة دفعتها لتقليص نفقاتها ورواتب موظفيها.
أطفال عبد الغني الخمسة وزوجته لا يعرفون من الطعام منذ سنوات إلا الجبن المملح المفتت زهيد الثمن والخبز ودبس الفلفل الأحمر، وعندما تكون الأحوال جيدة يضاف إلى ذلك قليل من الخيار والبندورة.
ومع بدء العام الدراسي بات الحصول على المصروف حلماً لأطفال عبد الغني، فشطيرة الجبن هي كل ما يمكنهم اصطحابه معهم من طعام في حقائبهم البالية إلى مدرستهم التي يضطرون للذهاب إليها سيراً على الأقدام.
رحلة السير على الأقدام لا تقتصر على الأطفال، فوالدهم أيضاً يضطر للذهاب إلى عمله مشياً، فتكلفة المواصلات سيحتاجها لشراء الجبن والخبز.
ولا تزخر حياة عبد الغني وأسرته بكثير من التفاصيل مثل ثلاجتهم تماماً التي تخلو إلا من الفلفل والجبن والخبز وخضروات يمكن عد ثمراتها على أصابع اليد، تتوفر عند استلام الراتب الذي لم يعد له موعد محدد.
الشاب علي أبو حسن يختلف حاله عن جميع سابقيه، فهو عاطل عن العمل ولا يحقق أي دخل إلا ما ندر، ويقضي يومه من شروق الشمس إلى مغيبها يبحث عن مصدر رزق يمكنه من المساهمة بإعالة والديه وإخوته الصغار.
والد أبو حسن هو الآخر لا يملك عملاً ثابتاً، فقبل نحو عام ونصف كان يعمل في مصنع للخياطة، إلا أن المصنع قلص إنتاجه بسبب ضعف الحركة الشرائية في القطاع، وطلب من عماله العمل لأيام محدودة في الأسبوع.
وتعتمد أسرة أبو حسن على مساعدات إنسانية تقدمها لها وزارة الشؤون الاجتماعية وبعض الجمعيات الخيرية على فترات متباعدة.
وفي بيت الشاب الفلسطيني المعتم غالبا، تكاد تنعدم الظروف الملائمة للحياة فيه، فالسقف والجدران مشققة وتغزوها الرطوبة، ولا يوجد أي فرش إلا حصيرة مهترئة وسجادة باهتة تتوسطها رقعة كبيرة تتوزع عليها رقع أصغر.
هذه النماذج تعكس حياة غالبية الفلسطينيين في قطاع غزة التي حذرت الأمم المتحدة في تقارير سابقة لها من أنه لن يكون صالحاً للحياة في عام 2020.
حذرت الأمم المتحدة في تقارير سابقة لها من أن قطاع غزة لن يكون صالحاً للحياة في عام 2020.
وبحسب بيانات أممية نشرت العام الماضي، فإن قرابة 80% من الفلسطينيين في القطاع يعيشون على المساعدات الإنسانية.
وارتفعت نسبة الفقر في قطاع غزة في الربع الأول من العام الجاري إلى 53%، فيما تخطت معدلات البطالة الـ80%، وفق بيانات المركز الفلسطيني للإحصاء (حكومي)، واللجنة الشعبية لرفع الحصار عن قطاع غزة (غير حكومية).