ظاهرة عارضات الأزياء المحجبات.. هل نفعت الحجاب أم ضرّته؟
استقر في الوعي الجمعي الديني في المجتمعات المسلمة أن الحجاب فريضة تعبدية ذات هدف اجتماعي أخلاقي، واستقر أيضاً أنه شعار المسلمة وهو أداتها الأولى للدعوة إلى الله وإعلانها الأبرز عن فخرها والتزامها بمعتقدها.
ومع تزايد الإقبال على الحجاب بعد السبعينات وكذلك مع ارتفاع مكانته كفعل مرضيّ عنه من مجتمع يشهد صحوة دينية، أُعطيت فكرة الحجاب “الشعار” و”الرمز” ثقلاً أكبر. أدى هذا إلى اختلال في الموازين لم تتضح آثاره إلا خلال السنوات الأخيرة.
لنتفق أولاً أن هذه الفكرة ليست خاطئة بشكل كامل، نعم الحجاب شعار المسلمة فهو شئنا أم أبينا عبادة اجتماعية ظاهرة، بمعنى أنه أمر لا يمكن الكتمان فيه كصلاة ليل أو جلسة ذكر.
وهو كذلك أداة ناطقة فسواء تحدثت صاحبته أم بقيت صامتة، فإن مجرد ارتدائه يعطي انطباعاً محدداً ويجلب توقعات معينة. إلا أن الوظيفة الدعوية ليست أُولى ولا أهم وظائف الحجاب، ولذا ترتدي المسلمة حجابها حتى حين لا تكون في حال دعوة إلى الله، وترتديه حتى أمام أولئك الذين لا تقصد دعوتهم إلى الله.
ومن الضروري ألا تطغى الوظيفة الدعوية للحجاب على التعبدية والأخلاقية فإن حدث – وقد حدث بالفعل – كان هذا مجلبة لكثير من الغلط واللغط.
لا تخطئ عين المتابع انتشار ظاهرتي خلع الحجاب وأزياء الحجاب خلال السنوات الأخيرة، وهما في جانب من جوانبهما على الأقل تعكسان خطورة أن نركز على المهمة الإعلامية للحجاب على حساب المهمتين التعبدية والأخلاقية.
أما خلع الحجاب، فهي ظاهرة أتت ضمن أجواء من التغيير السياسي والفكري والديموغرافي، شهدته الشعوب المسلمة عموماً والعربية خصوصاً.
وهي ظاهرة تكاد لا تنحصر في طرف من أطراف الأرض بأسباب وحيثيات وتعقيدات ليس هذا مجال الخوض فيها. وهي بالمناسبة مادة ممتازة لبحث ميداني ما لم يقم به أحد يبقى الكلام في أسباب هذه الظاهرة تكهنات وآراء.
إلا أن مما يتردد كثيراً على ألسنة اللواتي نزعن حجاباتهن هو أن الحجاب رمز لمعانٍ دينية وسياسية تثقل كاهل من ترتديه وتجعلها في أي وقت عرضة للعنصرية أو الإيذاء أو النبذ.
ويرددن أيضاً أنه إذا كان الحجاب شكلاً من أشكال الدعوة فليست الدعوة فرض عين على الجميع.
وإذا كان عنوان فخر فالعبرة فيما استقر في النفس إذ نحن لسنا في أبهى العصور فيما يتعلق بالصورة النمطية عن المسلم والمسلمة. طريقة في تصور الحجاب وفهمه تذكّر إلى حدّ كبير بحجة أولئك الذين يريدون أن يمنعوا الحجاب في المؤسسات التعليمية والسياسية والحكومية أو حتى المهنية باعتباره رمزاً دينياً.
والأجدر بأن نتذكره هنا، هو أن الحجاب وإن تعددت وظائفه بين دعوي واجتماعي فهو في المقام الأول أمر إلهي.
نعم إن التي ترتدي الحجاب في بلاد الأقليات المسلمة لهي أشبه بمن يسير رافعاً لافتة تعريف دينية لا يتركها في حل ولا ترحال، ونعم إن هذا الأمر متعب في كثير من الأحيان وقد تلاقي المرأة بسببه كثيراً مما تكره.
ولكنّ كون الحجاب فرضاً على كل مسلمة بالغة عاقلة راشدة يغير موازين الحكم. قد يقول البعض: إن هذا لم يعد متفقاً عليه. أقول: إن أحداً من مدّعي عدم فرضية الحجاب لم يقدم حجة مقنعة متزنة ليثبت هذا حتى الآن، وإذا كان الفهم التقليدي لحدود الحجاب وشكله يطرح أسئلة ما، فإن القول بعدم فرضية الحجاب يفتح باباً لوابل من الأسئلة والشكوك التي لا تصمد حجة القائلين بهذا القول أمامها.
أما ظاهرة أزياء الحجاب، بل وعارضات أزياء الحجاب، فتعكس غياب المهمة الأخلاقية للحجاب عن ذهن كثيرات ممن يرتدينه.
بدأت هذه الظاهرة من الثورة على فهم متشدد للحجاب فحواه أن مهمة الحجاب هو إخفاء المرأة كلها وأن المحجبة يجب أن تكون لا مرئية، لا معنى للأناقة في حياتها ولا مكان للموضة في قاموسها، وانطلقت بهدف تقديم الحجاب بصورة عصرية ومقبولة.
وأخذت هذه الظاهرة تدفع الحدود شيئاً فشيئاً حتى وصلنا اليوم إلى مرحلة شعارها كيف تكونين محجبة فاتنة، فانحسرت الأكمام وضاق اللباس و”صُبغت” الوجوه، وكأن الحجاب جاء ليكون شكلاً آخر من أشكال الفتنة لا رادعاً لها ولاجماً لطغيانها.
وكانت هذه الظاهرة بالفعل “دعاية” للحجاب، إلا أنها كحال كثير من الإعلانات تقدم صورة تسرّ الناظرين وإن ابتعدت عن حقيقة المنتج المراد الترويج له.
نعم ليست مهمة الحجاب إخفاء المرأة ولكن مهمته إخفاء زينتها إلا ما ظهر، وليست المحجبة شخصاً يعيش خارج الزمان لا يعترف بالأناقة ولا يدخل السوق ولا يراعي الذوق، ولكن كل هذا له أن يحدث ضمن الحدود الشرعية. يجب أن تتذكر هؤلاء أن الحجاب رمز للعفاف الشخصي وسيرٌ نحو العفاف الاجتماعي، ولا ينبغي أن يخرج عن هذا المعنى إلى عكسه.
وطبعاً لا يعني هذا أن كل من لا ترتدي الحجاب لا تتصف بالعفة، فالحجاب بوصفه لباساً هو جزء من منظومة كاملة للظهور والحركة والتعامل مع المجتمع يحفظ العفاف الشخصيّ ويدعّم العفاف المجتمعي.
وبالمقابل لا يعني هذا أن من ترتديه عفيفة طاهرة بالضرورة، ولكنّ هذا على الأقل هو الوضع المثالي الذي يسعى الإسلام إلى تحقيقه في كل العبادات التي لها شق اجتماعي: ظاهر حسن يرضي الله ينطوي على باطن حسن يرضي الله أيضاً.
مشغولون نحن بتحسين الصورة سواء أمام الآخر من مجتمعات غربية أو غير ملتزمة أو أمام أفواج من المتابعين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والأولى بانشغالنا هو معنى الأشياء وقيمتها في الدنيا والآخرة.
أعتقد أن كثيراً من الجهد الإحيائي في موضوع الحجاب يجب أن يتركز على مهمته التعبدية ومهتمه الأخلاقية. أمرٌ يجب أن نطيل التفكر والبحث فيه ونحن نعيد النظر في كثير من أفكارنا الدينية التقليدية.