هذا ما فعلته أخطاء لغوية بأصحابها.. عزلت أحدهم عن منصبه
في كثير من المصنفات العربية التي تعنى بالتراجم أو بعلوم اللغة أو المعاجم، تظهر الإشارة إلى اللَّحن في اللغة العربية، كعيبٍ يرافق صاحبه، كما لو أنه جزء من سيرته الشخصية لا يفارقه، خصوصاً إذا ما تم تثبيت واقعة ارتكابه خطأ في اللغة، في أكثر من كتاب.
واللّحنُ في اللغة العربية، اتُّفق عليه كاسم لأي خطأ نحوي أو لغوي. فيقال لمن أخطأ بالنحو: “لَحَنتَ” ولمن أخطأ باللغة: “لحنتَ”. ويشمل اللحن أوسع طائفة أخطاء ترتكب في اللغة، حتى أخطاء اللفظ التي تشمل إنقاص حرف من كلمة أو زيادته فيها.
ويشمل اللَّحنُ في اللغة، كل ما لا يتفق مع الإعراب والنطق السليم والنحو والصرف. ويعرّف اللحن في اللغة، بأنه العدول عن الظاهر، والخطأ أو الميل، وأنه ميل بالكلام عن سننه. ويعرّف على أنه مخالفة الإعراب، وتركُ الصواب في القراءة والنشيد.
ولا يكاد مصنّف عربي قديم، في اللغة والنحو والصرف والتراجم، إلا ومرّ على اللحن تعريفاً أو سرداً لوقائعه. إذ كان اللحن خطأ دفع ببعضهم للاستغفار، كما لو أنه ذنْبٌ، ودفع بآخرين للانسحاب من مجلس، وجعل آخرين يشار إليهم بالبنان، وطُعِن على بعضهم بسببه، وعُزِل من لحن في العربية، عن منصبه، وكذلك قيلت بحقّ اللّحّان، في ما نقلته الكتب، كلمات لا يمكن نقلها أو اقتباسها.
لماذا سمّي مقام الإمام في المسجد محراباً؟
ولعل ما رواه “لسان العرب” عن سبب تسمية المحراب محراباً، يوضح هيبة اللغة العربية والخوف من ارتكاب أخطاء فيها. فهو يقول: “قيل إن المحراب سمّي محراباً لأن الإمام إذا قام فيه، لم يأمن أن يلحن أو يخطئ!”.
وجاء في “معجم الأدباء” لياقوت الحموي، أن الخليل بن أحمد الفراهيدي، سمع أيوب السجستاني يحدّث بحديث، فلحن فيه، فقال: “أستغفر الله”. ثم يفسِّر: “يعني أنه عدّ اللحنَ ذنْباً”.
وكان الأعرابي إذا دخل سوقاً وسمع فيها لحناً، يقول: “العجب، يَلحنون، ويربحون؟!”.
خليفة أموي: أَخرِجوا هذا اللَّحّان عنّي!
ومن لطائف المنقول في اللحن، ما ورد عن الحسن البصري عندما جاءه رجلٌ وقَرَع عليه، قائلاً: “يا أبو سعيد”، وفيها لحن، فلم يجبه البصري. فكرر الرجل وقال: “أبي سعيد” وفيها لحن، أيضاً. فقال له البصري: “قُل الثالثة، وادخُل!”. وقصد بالثالثة “يا أبا سعيد”. وهي الخالية من اللحن.
وفي حادثة، كان الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، في مدينة دابق. فتقدّم منه رجلٌ وقال: “يا أمير المؤمنين، إن أبينا هلك وترك مال كثير، فوثب أخانا على مال أبانا فأخذه”. فغضب الخليفة الأموي لفداحة اللحن الذي ورد في كلام الرجل، فقال له: “فلا رحم الله أباك ولا نيح عظام أخيك، ولا بارك الله لك فيما ورثت”. ثم يأمر الخليفة بإخراج الرجل من مجلسه: “أَخرجوا هذا اللّحّان، عنّي!”.
لحن فعزل عن منصبه!
ولحن بعضهم، في اللغة العربية، فعزل رئيسه عن عمله، عقوبة له على ما كان يعتبر خطأ لا يغتفر، وهو الذي كان يستغفر فيه السجستاني.
ويورد ياقوت الحموي، أن طاهر بن الحسين، قدم والعباس بن محمد بن موسى، على الكوفة. فأرسل العباس كاتبه إليه، وقال لطاهر: “أخيك أبي موسى يقرأ عليك السلام”. وفيها أكثر من لحن. فسأله طاهر: “وما أنتَ منه؟” فأجابه: “أنا كاتِبهُ”.
وتنتهي الرواية بصرف العباس بن محمد بن موسى عن الكوفة، لأنه “لم يتخذ كاتباً يحسن الأداء عنه”.
وكان معاوية بن بجير، عامل البصرة، “لا يلحن”. ولمّا مات، جاء رجلٌ بخبر نعيه قائلاً: “مات بجيراً” والصحيح بجيرٌ. فقيل له: “لحنتَ، لا أُمّ لك”.
وينقل الحموي أن سعيد بن سلم قال: دخلتُ على (الخليفة العباسي) الرشيد فبهرني هيبةً وجمالاً، فلمّا لحن، خفّ في عيني.
وينقل حادثة أخرى عن أبي جعفر المنصور، عندما تحدّث وفي حضرته أعرابي. فلحن المنصور في كلامه، فصرّ الأعرابي أذنيه (متضايقاً من لحن المنصور). فتحدث المنصور ولحن الثانية، فقال الأعرابي: “أف لهذا. ما هذا؟!”. ثم تكلّم المنصور فلحن الثالثة. فقال الأعرابي: “أشهدُ لقد ولّيتَ هذا الأمر، بقضاء قدر!”.
لحن السقّاءات
وبعث الحجاج إلى والي البصرة، كي يرسل له عشرة رجال. فاختار رجالاً، منهم كثير بن أبي كثير. ودخل كثير عليه، فسأله الحجاج: “ما اسمك؟” فأجابه: “كثير”. فسأله الحجاج: “ابن من؟” فقال كثير: “خفتُ إن قلتها بالواو لم آمن أن يتجاوزها”. فأجابه: “أنا ابن أبا كثير”، وفيها لحن لأن الصحيح ابن أبي. فقال الحجاج: “عليك لعنة الله، جيئوا في قفاه”.
ودخل خالد بن صفوان التميمي على بلال بن أبي بردة، فحدّثه ولحن. ولمّا كثر لحنه على بلال، قال له: “يا خالد، تحدّثني أحاديث الخلفاء، وتلحن لحن السقّاءات!”. والسقاءات نساء يسقين الماء للناس.
وفي حادثة دخل الكسائي على قوم، وقال لهم: “قد عييتُ”. فقالوا له: “أتجالسنا وأنتَ تلحن؟!” فقال: “وكيف لحنتُ؟”. فقالوا له: “إذا كنتَ أردتَ من انقطاع الحيلة والتحيّر في الأمر فقل عييتُ. وإن كنتَ أردتَ من التعب فقل أعييتُ”. وتقول الرواية إن الكسائي ذهب بعدها ليتعلم النحو.
أسباب ظاهرة اللحن في اللغة العربية
ويحدد الباحثون ثلاثة أسباب رئيسة، أدت لحصول ظاهرة اللحن في اللغة العربية، كاختلاط العرب بغيرهم، وعمل غير العرب من العجم، بعلم اللغة والنحو والرواية، وإهمال التنقيط والتشكيل. حسب ما جاء في كتاب “اللحن اللغوي وآثاره في الفقه واللغة” لمحمد التمين.
ويسرد تمين أسماء بعض المصنفات العربية القديمة، التي عكست هاجس اللغويين والنحويين بتخليص العربية من ظاهرة اللحن، فكتبت لأجلها مؤلفات عديدة، منها كتاب “إصلاح المنطق” ليعقوب بن إسحاق الشهير بابن السكيت. وكتاب “لحن العامة” لسهل بن محمد السجستاني. وكتاب “ما يلحن فيه العامة” لمعمر بن المثنى. ومثله للفرّاء، يحيى بن زياد. ومثلهما كتب المازني، وهو بكر بن محمد. وكتاب “التنبيه على حدوث التصحيف” للأصفهاني، حمزة بن الحسن. وكتاب “أدب الكاتب” لابن قتيبة، عبد الله بن مسلم. وكتب أخرى كثيرة.