من هو الشاعر السوداني شبيه أبو القاسم الشابي؟
تبدو حياة الشاعر السوداني التيجاني يوسف بشير (1912 – 1937) شبيهة جداً بحياة الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي (1909 – 1934)، وقد عاشا في فترة واحدة تقريباً، وتميّزا بمدرسة شعرية كان لها صداها الواسع إلى اليوم من حيث الحسّ الفطري المبكر والشاعرية، التي جمعت بين الرومانسية والثورة والحس الصوفي.
وكان الكاتب أبو القاسم محمد بدري قد لفت الانتباه لهذا التشابه في وقت مبكر، بمقالة نشرها في مجلة “الرسالة” المصرية، وذلك بتاريخ 24 يونيو 1946، وكان عنوانها “الشاعران المتشابهان، الشابي (التونسي) والتجاني (السوداني)”.
ولفت بدري الانتباه إلى نظرة الحياة المتقاربة عند الشاعرين قائلاً: “وليس هذا يحدث إلاّ في النادر القليل”.
وقال: “رغب كلاهما عن الحياة العابثة الماجنة، ونزعا نزعة التصوف والزهد وسخطا على عيشهما”.
وأشار إلى أن الاثنين كانا يدعوان للإصلاح والنقد الاجتماعي، وقد “أودعا كل ذلك في شعر رائع زاخر يجيش ثورة واضطراما على التقاليد، ويفيض ناقماً على المنازعات والحزبيات، ثم يتدفق عذوبة ويتفجر إخلاصاً وحماسة في معالجة المشكلات”.
ديوان إشراقة
لم تتمخض حياة التيجاني سوى عن ديوان شعر واحد، نُشِر بعد وفاته في #القاهرة بنهاية الثلاثينيات باسم “إشراقة”، فيما نشر للشابي فقط – أيضا – ديوان “أغاني الحياة”.
وقد جاء إشراقة الذي لا يعرف إن كان هو كل ما كتب التجاني أم لا مقسماً بطريقة متدرجة، بحسب مسارات الحكمة والإدراك الوجودي، من إشراقة القصيدة الافتتاحية إلى مقامات النبي والفيلسوف إلى الحب والتصوف، وغيرها من الإشارات ذات العلاقة بمحاولة فهم هذه الحياة وسبر أغوارها، وجدليات الإيمان والشك والحب في طبقاته المتنوعة.
الحرب على التيجاني
لقد كان التيجاني يوسف بشير باحثاً مجداً في جذر المعنى الوجودي والحياة الإنسانية، وكانت حياته تجربة صعبة في حد ذاتها، حيث حورب من قبل أساتذة المعهد العلمي في أم درمان وطرد بتهمة الإلحاد في فترة مبكرة، وشهدت جذور وبواكير الصراع بين المدرسة الدينية التقليدية والتيار الحداثي في الربع الأول من هيمنة الاستعمار الإنجليزي على البلاد.
لكن قضية التيجاني ومعهده الذي نسج قصيدة بشأنه مبجلاً له رغم الحيف الذي أنزل به، وسار إلى القول بأنه رمي زيفاً، وكادوا أن يقرروا به الموت، ما زالت – هذه القضية – يكتنفها بعض الغموض في روايتها وأسبابها وهل كان طابعها الخلاف المعرفي أم عدم تقبل النقد والحوار الحقيقي، أم أنها لا تخلو من داء الحسد باتجاه عبقرية مبكرة لشاب صغير برع في الشعر والنثر الأدبي.
فالتيجاني كان ناثرا يكتب بطريقة لا تقل عن إبداعه الشعري، حيث نشر مبكراً في صحيفة “ملتقى النهرين”، ومجلتي “أم درمان” و”الفجر”.
حياة المعاناة
لكن ذلك الإبداع لم يشفع له أن يحيا حياة سهلة، فقد عمل في محطة وقود يبيع البنزين ليكسب رزقه، كما أن محاولة سفره إلى مصر فشلت حيث كان يأمل أن يكمل تعليمه هناك كما كان يفعل بعض من أهل زمانه.
وهنا تتداخل أسباب عديدة في ذلك الفشل منها الجانب الاقتصادي وقصر الحيلة المادية، أيضا ربما أن التيجاني وبرواية البعض رضخ لسلطة العائلة في أن يبقى بالوطن.
وقد انتهت حياة التيجاني بمرضه وقد رحل عن قرابة 25 سنة، بداء الصدر اللعين الذي لم يترك له راحة، ويبدو أن ذلك المرض كان لأسباب عديدة لم تخلُ من الحصار النفسي بسبب الضيق باتجاه الأحلام الطموحة، التي قصر عن تحقيقها لأسباب اجتماعية وواقع لم يقدر عبقريته وغيرها من الأسباب.
الهوية المعرفية
إن تعليم التيجاني لم يكن حديثاً بالمعنى الواضح، بل كان قد تلقى العلوم التقليدية في زمانه، ودخل المعهد العلمي الذي طرد منه وهو أيضا مدرسة ذات طابع تقليدي، لكنه رغم ذلك استطاع أن يكون لنفسه وعياً متقدماً عن أقرانه ليصوغ أروع المعاني الفلسفية في فقه الحياة في هذه السن المبكرة.
كذلك فإن التيجاني الذي لم يجيد لغة أجنبية، كان ينفذ إلى الميثولوجيا والفلسفة اليونانية وغيرها، من خلال مصادر وسيطة والترجمات، وقد قرأ تقريبا تراثاً زاخراً عربياً وأجنبياً كوّن هويته الشعرية المتقدمة، ليشار إليه اليوم من قبل الأجيال الثقافية السودانية على أنه رائد الشعر الحديث في البلاد.
هذه الريادة التي استحقها من خلال شعر مختلف فعلياً وابتكار ومواضيع غير مسبوقة، فقبله في السودان ليس من السهل العثور على شعر بقوة المعاني وأيضا الجدية والابتكار.
ورغم ذلك فثمة غموض في شعر التيجاني يكتنفه، يرجح أن يكون سببه العمق الشديد في الوعي الذي قاد إلى هذا الشيء، برغم تنوع القراءات حول هوية شعر هذا “الصوفي المعذب” كما سمى نفسه في إحدى قصائده.