حكاية طبيب مصري لاحقته إسرائيل 30 عاماً لتكريمه
في ضاحية مصر الجديدة الراقية شرق العاصمة المصرية القاهرة، وفي منزل من 3 طوابق تحمل جدرانه وتصاميمه عراقة وأرستقراطية كانت وما زالت سمات سائدة لعائلات تلك المنطقة التي تأسست قبل 111 عاما، تعيش عائلة حفيد شقيقة الطبيب المصري الراحل #محمد_حلمي الذي لاحقته إسرائيل طيلة 30 عاما لتكريمه.
في ذلك المنزل يعيش الطبيب محمد ناصر #قطبي أستاذ أمراض الأنف والأذن والحنجرة بكلية الطب جامعة عين شمس والبالغ من العمر 81 عاما، وهو الذي تسلم الجائزة من إسرائيل نيابة عن عائلة الطبيب المصري الراحل حلمي.
المنزل يحمل كل ركن من أركانه ذكرى للطبيب الراحل وزوجته، وصورا له وصورا أخرى للعائلة، وكانت “العربية.نت” هناك لترصد مع حفيد الطبيب الراحل تلك الذكريات، وترصد القصة منذ بدايتها.
البداية كانت في العاصمة السودانية الخرطوم حيث ولد في العام 1901 الطبيب المصري حلمي لأب كان يعمل ضابطا في الجيش المصري في السودان، وفي العشرينيات من القرن الماضي التحق حلمي بكلية الطب وسافر مع عدد من أصدقائه للدراسة في ألمانيا، وكان من بين هولاء الأصدقاء الفنان المصري الراحل سراج منير، وهناك بدأت قصته التي هزت مشاعر العالم ومشاعر الإسرائيليين، وجعلت مؤسسة ياد فاشيم تبحث عن عائلته طيلة 30 عاما لتكريمه.
القصة جرت فصولها عقب تخرجه حيث عمل في معهد روبرت كوخ، لكنه سرعان ما فُصل عن عمله عام 1937 بسبب النازية، وتم منعه من العمل في أي مستشفى بعد وصول النازيين إلى الحكم في ألمانيا، كما تم منعه من الزواج من خطيبته الألمانية لكونه مواطنا لا ينتمي للجنس الأري، وعرف عنه انتقاده لهتلر والنازية بشكل علني، وألقي القبض عليه عام 1939 مع عدد من المصريين ولكن أطلق سراحه بسبب إصابته بمشكلات صحية.
أنقذ الطبيب الراحل عائلة يهودية من #المحرقة النازية خلال الحرب العالمية الثانية، حيث كان يخفيها لفترات طويلة ما بين عيادته ومنزله ومنازل أصدقائه، وأخفى الفتاة اليهودية أنا بوروس غوتمان التي كانت تبلغ من العمر 15 عاما، وضلل الجستابو طيلة سنوات الحرب العالمية وحتى خروج النازيين من الحكم، وبعدها خرجت الفتاة بشكل شرعي وهاجرت لأميركا، واستقرت هناك وتزوجت وأسست عائلة أصبحت ترتبط بعلاقات صداقة وأخوة مع عائلة الطبيب الراحل.
وخلال الحرب العالمية الثانية بقي حلمي يعالج مرضاه اليهود وغيرهم في عيادته ومنها عائلة آنا، وساعدها بالحصول على أوراق ثبوتية جديدة، حيث ساعد أيضا والدة ووالد انا وجدتها سسيليا رودنيك، وقدم لهم العناية الطبية والأدوية عند الحاجة.
تزوج حلمي بعد الحرب من حبيبته الألمانية أيمي إلا أنهما لم ينجبا وبقيا في ألمانيا حتى توفي عام 1982 وتوفيت زوجته عام 1998، وظلت #إسرائيل تبحث عن أي فرد من عائلته لتكريمه ومنحه لقب عزيز إسرائيل.
وبعد سنوات طويلة وافق الدكتور قطبي على تسلم شهادة تكريم وتقدير جده الراحل، وتسلم الجائزة والتكريم الأسبوع الماضي في مقر وزارة الخارجية الألمانية.
ويقول الدكتور قطبي لـ”العربية.نت” إن إسرائيل بحثت عن أي شخص من العائلة طيلة السنوات الماضية حتى تمكنت عبر السفارة المصرية في إسرائيل من العثور على أحد أقاربه، وكان يعمل في مكتب رئيس الوزراء بمصر وهو ابن خالته، مضيفا أن ابن خالته نقل للعائلة رغبة الإسرائيليين في تكريم الدكتور حلمي، ولكن العائلة رفضت وبإصرار وأصرت على الرفض حتى هذه اللحظة.
ويضيف الدكتور قطبي أنه فوجئ قبل سنوات بفضائية نمساوية تتصل به وتطلب منه إجراء مقابلة عن الدكتور حلمي باعتباره حفيده المقرب منه، وأكثر من تواصل معه، وبالفعل قام بإجراء المقابلة معهم، لكن المقابلة لم تبث، وتبين فيما بعد أن الفريق الذي أجرى المقابلة والفضائية لم يكونا نمساويين، بل كانا ضمن الفريق الإسرائيلي الذي يعد تقريرا عن جده الطبيب الراحل.
ويكشف قطبي سرا آخر ويقول إن مسؤولي صحيفة ألمانية تواصلوا معه وطلبوا منه مقابلة أخرى للحديث عن جده الراحل، وأجرى المقابلة بالفعل، ولم ينشر الحديث أيضا، وبعدها فوجئ باتصال هاتفي من أصدقاء ألمانيين له يخبرونه بالحقيقة، وأن الفريق الإسرائيلي يريد الحصول على موافقته لتسلم الجائزة نيابة عن عائلة الدكتور حلمي، مؤكدا أنه أعلن لهم موافقته وأنه لا يرى مانعا لتسلم جائزة ستخلد ذكرى وعمل جده الراحل.
ويقول الدكتور قطبي إنه تواصل مع المسؤولين بالمؤسسة الإسرائيلية، وأبلغهم بموافقته لكنه اشترط أن يكون التكريم في جهة محايدة وليس في إسرائيل، رغم أنه سافر كثيرا للقدس والتقى بمسؤولين إسرائيليين في مؤتمرات علمية وعالمية، وفوجئ بمسؤولي المؤسسة يخبرونه أنه يمكن إقامة الاحتفال في سفارة إسرائيل بألمانيا، فرفض ذلك وطلب منهم إقامة الاحتفال في أحد الفنادق أو الجامعات الكبرى أو المركز الإسلامي، ولكنه اكتشف أن المركز الإسلامي تجري به عدة ترميمات، واستقروا في النهاية على إقامته في مقر وزارة الخارجية الألمانية وبحضور سفير إسرائيل هناك، فطلب منهم ضرورة حضور السفير المصري، ولكنه اعتذر لظروف سفره للقاهرة بسبب حالة وفاة لديه، وحضر مسؤول كبير من السفارة بدلا منه.
ويشير الدكتور قطبي إلى أنه خلال الاحتفال طلب إلقاء كلمة ذكر فيها مآثر جده الراحل، وذكر فيها أمام العالم والحاضرين أن ما فعله جده كان بدافع الإنسانية وتعاليم الإسلام الحنيف الذي يأمرنا بإغاثة الملهوف، ونجدة المستضعفين، وأن إنقاذه لفتاة يهودية من محارق النازية أملته عليه أخلاقه كمسلم، ومهنته كطبيب، وهو تصرف يجسد شخصيتنا نحن المصريين في تلك الفترة التي كانت تعيش فيها مصر متعددة الأعراق واللغات والإثنيات والأديان، وكنا نعيش معا في محبة وتراحم دون تفرقة أو تمييز أو عنصرية.
وقال إنه طالب في كلمته الذين عانوا من العنصرية والتمييز، وكانوا يتعرضون للمحارق بسبب جنسيتهم وعقيدتهم أن يتذكروا ما حدث لهم ولا يمارسونه مع الآخرين، فالطريقة القاسية والبشعة واللاإنسانية التي عانى منها اليهود على يد النازيين كفيلة بأن تجعل هذا السلوك مرفوضا ممن عانوا من ويلاته، وأن يضعوه أمامهم ونصب أعينهم، ولا يمارسوه ضد العرقيات وأصحاب الديانات والجنسيات الأخرى، مؤكدا لهم أن الله عز وجل قال في القرآن “مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا”، وهو معنى ورد أيضا في التوراة.
وأضاف الدكتور قطبي أن السؤال الذي يفرض نفسه هو لماذا بقي الدكتور حلمي في #ألمانيا بعد كل تلك المعاناة؟ وماذا حدث له جراء إيوائه وإخفائه للفتاة اليهودية؟ وأجاب قائلا إن جده الراحل وفي زيارة له لهذا المنزل الذي يقيم فيه في القاهرة عام 1950 وكانت تلك أول زيارة يقوم بها بعد رحيل النازي، وعودة الأمور لطبيعتها، شرح له السبب وكشف له بعضا من الغموض الذي أحاط بتلك القصة، وقال إنه بقي في ألمانيا لعدة أسباب، أولها أنه كان لديه تحد كبير في مواصلة رسالة الدكتوراه التي حرم منها بسبب الظروف السياسية واعتقاله لمدة عام في سجون النازية، والثاني أنه وصل لمنصب كبير في عمله ولا يمكنه التنازل عنه، والثالث أنه توج قصة حبه بالزواج من حبيبته التي ضحت بالجنسية الألمانية من أجله وحصلت على الجنسية المصرية كي تتمكن من الزواج منه، ولذلك أصبحت ألمانيا هي داره وموطنه وبقي فيها حتى مات.
وقال إن جده الراحل روى له جانبا من قصة الفتاة اليهودية التي أخفاها في منزله وعيادته، وكشف له أن عناصر الجستابو كانوا يخطفون الفتيات اليهوديات ويغتصبونهن ثم يذهبون بهن لمعسكرات الاعتقال تمهيدا للزج بهم في الهولوكست، وهو ما كان يخشى منه على تلك الفتاة التي كان طبيبا لأسرتها وعائلتها، لذا أخفى عائلتها، وتمكن بعضهم بمساعدة آخرين من الفرار والعودة لبلدانهم الأصلية، فيما لم تستطع هذه الفتاة الهرب لصغر سنها، لذا قدم لها أوراقا ثبوتية تؤكد أنها مصرية، وأنها تعمل معه في عيادته حتى يخفيها عن عيون عناصر النازي الذين اختطفوا زميلاتها وصديقاتها واغتصبوهن وأحرقوهن في أكبر مأساة إنسانية في التاريخ.
ويضيف أن أسرة الطبيب الراحل أصرت على عودته لكنه رفض، وقال لهم إنه أحرق سفينة العودة، وأنه بعد الحرب العالمية الثانية وانقسام ألمانيا تم تعويضه، وكوفئ بعد طول صبر وتمكن من بناء فيلا صغيرة يقيم فيها مع زوجته الألمانية وولديها من زوجها الأول، وأصبح من أبرز أعضاء الجالية المصرية في ألمانيا، وكان يتلقى دعوات السفارة المصرية للمشاركة في احتفالات عيد ميلاد الملك وعيد جلوسه.
وأوضح أنه كان يسافر لجده الراحل سنويا اعتبارا من العام 1956، وكان يعتبر زوجته الألمانية مثل والدته، وبعد وفاة جده كان يزورها سنويا ويتابع ظروفها وأحوالها ويرعى شؤونها بمساعدة أصدقائه من الألمان حتى وفاتها في العام 1997.
ويقول الدكتور قطبي إنه طلب من المؤسسة الإسرائيلية أن تضع الميدالية والشهادة وكافة المتعلقات الخاصة بأطراف تلك القصة في متحف خاص في برلين كي يراها الجميع وتكون شاهدة على أبرز واقعة إنسانية تكرس ظاهرة التسامح بين الأديان، وعدم الكراهية بين بني الإنسان، وأن بالحب والوئام والتراحم يمكن للجميع أن ينعموا بالحب والسلام، وينفضوا عنهم رداء الكراهية وإقصاء الآخر والعنف والتطرف والتعصب الديني، ويتخذون من هذه القصة درسا عنوانه أن الإنسانية لن تفلح إلا بالمحبة، وأن المجتمع الذي يستظل بالتعددية الدينية والإثنية والعرقية هو الفائز بالخير والنماء والرفاهية والحب، ولكم في دولة مثل الهند خير مثال.
ويختتم الدكتور قطبي حديثه مع “العربية.نت “ويقول أوجه رسالتي الأخيرة لجدي في قبره وأقول له: “أنا فخور بك وبما فعلته باسم الإنسانية”.