فنون

فيلم «تيتانيك»… تزييف التاريخ والافتعال الفني

لا يمكن لأي هاو للفن السابع ألا يشاهد فيلم « تيتانيك» الذي أنتج عام 1997، فقد كان أول فيلم حتى ذلك التاريخ تصل تكاليف إنتاجه المئتي مليون دولار، وجلب الفيلم للشركة المنتجة أكثر من ملياري دولار. وقد حصل الفيلم على إحدى عشرة جائزة أوسكار، بعد أن رشح لأربع عشرة منها، وكان كذلك الفيلم الذي صنع من بطليه ليوناردو دي كابريو وكيت ونسلت نجمين عالميين.

اعتمد الفيلم على قصة حب على متن السفينة « تيتانيك» التي غرقت لارتطامها بجبل من الجليد في عرض البحر عام 1912. وتبدأ القصة في ميناء ساوثهامبتون البريطاني عام 1912، حيث ركب المسافرون متن السفينة « تيتانيك» الشهيرة المتجهة نحو الولايات المتحدة، التي كانت توصف بأنها السفينة التي لا تغرق. وكان من مسافري الدرجة الأولى الشاب الأرستقراطي الثري «كال هوكلي» مثل دوره الممثل بيلي زين وخطيبته «روز دويت بوكيتر» مثلت دورها الممثلة كيت ونسلت ووالدتها «روث» مثلت دورها الممثلة فرانسس فيشر، وكانوا عائدين إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وكانت هذه الخطوبة من بنات أفكار الوالدة بسبب معاناة تلك العائلة من مصاعب مالية مؤخرا بعد أن كانت من العوائل الثرية، واعتقدت الوالدة أن زواج ابنتها من «كال» الثري سينقذ العائلة من كارثة مالية. وكان من ضمن مسافري الدرجة الثالثة أمريكي آخر، وهو «جاك دوسن» مثل دوره الممثل ليوناردو دي كابريو، ذو العشرين عاما الذي قضى سنوات وهو يجول العالم، وكان قد ربح تذكرة السفينة في المقامرة، ولم يكن يملك أي مهنة أو تعليم، لكنه كان يحاول أن يكون رساما. وما أن انطلقت السفينة حتى بدأت أحداث الفيلم تدور بسرعة حيث تقرر «روز» الانتحار عن طريق القفز في البحر لأنها لا تريد الزواج من «كال»، إلا أن جاك يمنعها وتعجب هي به على الفور. واعتقد «كال» في البداية أن «جاك» كان قد هاجم «روز» إلا أنها والآخرين شرحوا له الأمر فكافأ «جاك»، وطلبت «روز» من «كال» أن يدعو «جاك» للعشاء في مطعم الدرجة الأولى. ولكن «جاك» لم يكن يملك الملابس الرسمية لحضور العشاء، فتقوم امرأة ثرية بإقراضه بدلة رسمية كانت قد اشترتها لابنها. وهنا تبدأ علاقة الحب بين «روز» و»جاك» تتطور بسرعة غريبة إلى علاقة جنسية، ويرسم «جاك» صورة لروز وهي عارية باستثناء المجوهرات التي أهداها لها «كال»، الذي يكتشف حدوث كل ذلك ويستشيط غضبا.

بدأ استغلال كارثة تيتانيك تجاريا فور وقوعها، فبعد تسعة وعشرين يوما فقط من تاريخ الغرق أنتج أول فيلم عنها وكانت بطلته ممثلة أمريكية للأفلام الصامتة.

ولذلك يقوم بتدبير اتهام بالسرقة لجاك، ويتم القبض عليه وتقييده في إحدى غرف السفينة. وفي هذه الأثناء ترتطم السفينة بجبل من الجليد وتبدأ بالغرق، فتركب الوالدة أحد قوارب النجاة بينما تهرع «روز» لتحرير «جاك» من قيوده وتنجح في ذلك. يقوم «كال» و»جاك» بإقناع «روز» باللجوء إلى أحد قوارب النجاة بعد أن وعدها «كال» بأنه يستطيع تأمين سلامته وسلامة «جاك»، ولكنها تقرر ترك قارب النجاة لأنها تعتقد أنها غير قادرة على البقاء حية بدون حبيبها، فتعود إلى السفينة ويطارد «كال» الاثنين في ممرات السفينة لفترة ثم يقرر تركهما، ينجح بركوب أحد قوارب النجاة لحمله طفلا بسبب تفضيل النساء والأطفال على قوارب النجاة. وتتجه «روز» و»جاك» إلى قوارب النجاة ولكن بعد فوات الأوان، حيث كانت جميعها قد غادرت السفينة وبقي الكثير من الركاب على السفينة ليلقوا حتفهم. ولكن «جاك» يساعد «روز» على الركوب على متن قطعة خشبية وهي ترتدي المجوهرات التي أهداها لها «كال»، بينما يموت هو من البرد القارص. ونجت «روز» لتعيش بقية حياتها وهي تسافر بين أنحاء العالم، بينما انتحر «كال» بعد ذلك عندما فقد كل ثروته في الانهيار الاقتصادي عام 1929. وتعود «روز» إلى موقع غرق السفينة عام 1996 وترمي المجوهرات في البحر. وهذا موجز لقصة الفيلم.
قصة الفيلم ليست سوى قصة مفتعلة تم تحويرها بجهد جهيد، وبطريقة ساذجة لتناسب حادثة « تيتانيك» والنمط الأخلاقي الذي تتسم به الأفلام الحديثة، بدون الاهتمام الكبير بالمنطق، فلدينا رجلان مختلفان في كل شيء، يتنافسان على حب فتاة ، وفي نهاية المطاف يموت أحدهما ولا يفوز الثاني بها. ولكن الفيلم لم يكن ناجحا جدا في عرض القصة، حيث فشل في إقناع المُشاهد بأن «جاك» أفضل من «كال»، فالأول مُعدم وغير متعلم ويتصرف باستهتار ويبدو كمراهق في الخامسة عشرة من عمره، بدون أن يتحمل أي مسؤولية في حياته ولم يمتهن عملا محترما في حياته. وعلى نقيض «جاك» كان «كال» (خطيب الفتاة) الرجل الوسيم المتعلم ذو المستقبل الباهر الذي كان يحاول جاهدا إسعاد خطيبته بدون نجاح، وكان رجلا تتمناه أي فتاة. والسؤال هنا لماذا تعجب «روز» بجاك؟ أن الجواب هو أن المخرج أراد ذلك ضاربا بأبسط الاعتبارات المنطقية عرض الحائط.
وعلى الرغم من كون القصة من نسج الخيال فإن منتجي الفيلم لم يأبهوا بالتفاصيل التاريخية للسفينة « تيتانيك»، فقد كان مستحيلا، من الناحية الواقعية، لروز أن تلتقي بجاك، بسبب الفصل التام بين مسافري الدرجة الأولى والدرجة الثالثة. والسبب هنا بسيط جدا، فقد كانت هناك مخاوف جدية من قبل إدارة السفينة من احتمال انتقال الأمراض من مسافري الدرجة الثالثة إلى مسافري الدرجة الأولى، وكأن مسافري الدرجة الثالثة قذرون ومصدر للأمراض. وكان النظام المتبع آنذاك عند وصول السفن إلى الموانئ الأمريكية أن يدخل مسافرو الدرجة الأولى الولايات المتحدة فورا، بينما يتجه مسافرو الدرجة الثالثة إلى الحجز الصحي، حيث يخضعون لفحص طبي شامل. ولم يكن هناك ركاب أمريكيون في الدرجة الثالثة على متن « تيتانيك» بل فقراء من ألمانيا وأيرلندا. وتتوالى الأخطاء التاريخية الكثيرة على الرغم من إصرار مخرج الفيلم على أنه اتبع التفاصيل التاريخية بدقة، ومما زاد الأمر سوءا أخطاء الإخراج والتمثيل الكثيرة. ولكن الفيلم على الرغم من كل ذلك نجح نجاحا منقطع النظير وحصد إحدى عشرة جائزة أوسكار.
وحاول البعض مقارنة فيلم « تيتانيك» بفيلم «ذهب مع الريح» الشهير من حيث وجود قصة حب تخللها حدث سياسي عظيم. ولكن شتان بين هذا وذاك، فقد امتاز «ذهب مع الريح» بقصة أفضل بكثير والحدث السياسي فيه وهو الحرب الأهلية الأمريكية كان أكبر بكثير من غرق سفينة كبيرة. وكان كلارك غيبل وفيفيان لي في فيلم «ذهب مع الريح» أكثر تأثيرا من ممثلي فيلم «تيتانيك» حيث قدما عرضا لا ينسى، بالإضافة إلى براعة إخراج الفيلم.

لا نعلم سبب إعجاب المشاهدين بأفلام تبين مقتل العديد من الناس والمعاناة الإنسانية الشديدة.

كان لغرق تيتانيك أثر بالغ على النقل البحري في العالم، فبسبب هذا الحادث تغيرت الكثير من قوانين السلامة البحرية في العالم، حيث اشترط بعد ذلك أن يكون عدد قوارب النجاة كافيا لاستيعاب جميع الركاب، وتغيرت أنظمة الاتصالات اللاسلكية، وتم تنظيم دوريات لمراقبة جبال الجليد. وعلى ما يبدو أن العالَم لا يفكر بسلامة المسافرين إلا بعد حدوث كارثة. ومن الجدير بالذكر أن عدد مسافري «تيتانيك» كان ألفا وثلاثمئة وستة عشر مسافرا، وكان عدد قوارب الإنقاذ كافيا لثلث ذلك العدد فقط. ونجا من المسافرين سبعمئة وعشرة أشخاص، وكانت أكبر نسبة منهم من مسافري الدرجة الأولى بشكل واضح. وبدأت رحلة السفينة من ساوثهامبتون يوم العاشر من ابريل/ نيسان عام 1912 وغرقت في الساعة الثانية وعشرين دقيقة صباح اليوم الخامس عشر من أبريل.
بدأ استغلال كارثة تيتانيك تجاريا فور وقوعها، فبعد تسعة وعشرين يوما فقط من تاريخ الغرق أنتج أول فيلم عنها وكانت بطلته ممثلة أمريكية للأفلام الصامتة، وقد نجت نفسها من الكارثة لأنها كانت من بين الركاب، واشتركت كذلك في كتابة قصة الفيلم. وقد تبعه في السنة نفسها فيلمان آخران، كان أحدهما فرنسيا والآخر ألمانيا. وبلغ عدد الأفلام التي أنتجت عن الكارثة حتى الآن أثنين وأربعين فيلما، ولكن أكثرها نجاحا فيلم هذا المقال. وكتب بعض الناجين كتبا عن الكارثة، وازدهرت تجارة رائجة لمقتنيات تيتانيك مثل علب السجائر والحلويات والكراسي، بالإضافة إلى عدد هائل من بطاقات السفر التي تُظهر صورة لتيتانيك. وهناك حاليا متاحف ومعارض في عدة مدن في العالم عن «تيتانيك»، وأشهرها في مدينة بلفاست الأيرلندية حيث بنيت السفينة. وقد أدى الفيلم إلى زيادة كبيرة في عدد السواح الزائرين للمواقع المتعلقة بالسفينة مثل موقع الغرق.
لم تكن أفلام «تيتانيك» الوحيدة التي تدور حول غرق سفينة عملاقة، حيث هناك سلسلة أفلام السفينة البوسايدن. وهذه الأفلام من أفلام الكوارث التي تحتل حيزا كبيرا من الأفلام الأمريكية الشهيرة. ولا نعلم سبب إعجاب المشاهدين بأفلام تبين مقتل العديد من الناس والمعاناة الإنسانية الشديدة.
والجدير بالذكر أن الروائي الأمريكي مورغان روبرتسن (1861 ـ 1915) نشر قصة بعنوان «حطام التيتان» عام 1898 وكانت القصة شبيهة بكارثة «تيتانيك».

المصدر
القدس العربي
اظهر المزيد

اترك تعليقك

زر الذهاب إلى الأعلى